وعلى الداعية أيضاً أن يتفكر في الارتحال من هذه الدنيا، وأنه سوف يرتحل قريباً، وأن الأجل محتوم سوف يوافيه، فلا يغتر بكثرة الجموع، ولا بكثرة إقبال الناس، فإن الله يقول: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93 - 95] فليعلم أنه سوف يموت وحده، ويقبر ويحشر وحده، وأن الله تعالى سوف يسأله عن كل كلمة قالها، فليتأمل لماذا يدعو؟ ولماذا يتكلم؟ وبماذا يقول؟ وبماذا ينطق؟ حتى يكون على بصيرة.
كذلك على الداعية: أن يتقلل من الدنيا تقللاً لا يحرجه، لكن عليه بالوسط، يسكن كما يسكن وسط الناس، ويلبس كما يلبس وسط الناس، مع العلم أن هناك حيثيات أريد أن أذكرها، قد تخفى على كثيرٍ من الناس.
فإن بعض الناس يرى أن على الداعية أن يلبس لباس الفقراء، أو يلبس لباساً من أوضع اللباس، وهذا ليس بصحيح، فإنه على مقصده، والله أحل الطيبات، والرسول صلى الله عليه وسلم دعا إلى التجمل {تجملوا كأنكم شامة في عيون الناس} {إن الله جميلٌ يحب الجمال} وقد يكون من الفرضيات المحتومة المطلوبة العظيمة النتائج؛ أن يكون الداعية متجملاً متطيباً، ويكون مجلسه وسيعاً يستقبل فيه الأخيار والبررة، ويكون له مركبٌ طيب، فإن هذا لا يعارض كتاب الله عز وجل، ولا يعارض سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
بل عليه أن يكون له في كل حالة ما يناسبها، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعتني بذلك، ففي صلاة الاستسقاء خرج صلى الله عليه وسلم في لباس متبذل -لباس قديم- ليظهر الخشية والخشوع والفقر أمام الله عز وجل، ولكنه في الأعياد لبس بردةً تساوي ألف دينار، وخرج بها أمام الناس، بل أهديت له هدية صلى الله عليه وسلم قيمتها مائة ناقة.
البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بوسها
وإن من الإجحاف أن يطالب الدعاة أن يعيشوا في بيوت الطين في هذا العصر، الذي لا تبنى فيه البيوت إلا من الفلل، وفيها من الأشياء التي تعرفونها، أو نطالب الدعاة أن يكونوا على الحصير، مع العلم أن الناس يجلسون على الكنب، أو نطالب الداعية أن يلبس لباساً متمزقاً قديماً ويكتفي بثوبٍ على طول السنة، مع أن الله قد وسع عليه، والله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده.
لكن مقصودي بكلامي: ألا يتشاغل الداعية بالدنيا تشاغلاً هائلاً يعميه عن طريقته، فإنه من الحسرة أن تجد كثيراً من الدعاة، أو بعض المشايخ، أو بعض طلبة العلم غارقاً في الدنيا إلى أذنه، له من المؤسسات والشركات والدور، ويتشاغل بها عن الدعوة، أنا لا أعارض أن يكون لطلبة العلم تجارة، ولهم عَمَار في الأرض، ولهم دخل، فهذا مطلوب كما فعل عثمان وابن عوف وغيرهم من الصحابة، لكن أن يستغرق طالب العلم والداعية وقته في هذه الأمور، فتجده دائماً في مكاتب العقار، في البيع والشراء، مع الشيكات ويترك الأمة للمهلكات، فهذا ليس بصحيح، وهذا محرج، ومخجل، فإن الله عز وجل استخدمك في أحسن طاعة وفي أجل قربة، ولا بأس أن يكون لك أسهمٌ وأن يكون لك مشاركات وتجارات، لكن وكلها غيرك من الوكلاء، واهتم أنت بالدعوة وبرفع راية التوحيد، وبتثقيف الناس وتعليمهم.