هذا مرض الشبهة عالجه القرآن بثلاث علاجات:
أولها: النظر والتفكر في الكون؛ يقول الله عز وجل: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس:101] وقال تبارك وتعالى لكفار مكة: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17 - 20] ولم يدقق الله عز وجل في دقائق الكون، وإنما نصب لهم العلامات والآيات، ولم يأت بالدقائق؛ لأن عقولهم لا تدرك إلا ما يرون، فخاطبهم الله بهذا.
ويذكر الله عز وجل السماء وما فيها من آيات، والأرض وما فيها من عجائب، يذكر خرير الماء، وخلق الطير، ويذكر الشجر، والزهر، والخلق البهيج، ويذكر الشجر صنوان وغير صنوان، والماء كيف كان أصله؟ ويذكر النطفة كيف تدرجت حتى أصبحت إنساناً، ثم يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الأخير: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [يونس:3].
إذاً: فالعلاج الأول لمرض الشبهة التي صادفت كثيراً من الشباب، وشكا منها كثير من الشباب حتى ممن صلى وصام وحج واعتمر.
العلاج الأول: النظر في الكون، والنظر في آيات الله عز وجل والتدبر، ولذلك جعل الله عز وجل من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: {رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} وإنما قال: خالياً ليكون بعيداً عن الرياء والسمعة.
ذكر آيات الله؛ يقول كثير من العلماء: لا يقتصر على ذكر الله بالتسبيح، والتحميد والتهليل فقط، بل إذا نظر إلى الجبال والوهاد والتلال، ففاضت عيناه فهو مأجور، وإذا نظر إلى المبتلين والمرضى ففاضت عيناه فهو مأجور، وإذا نظر إلى الأطلال والقبور ففاضت عيناه فهو مأجور، وإذا نظر إلى تعدد الهيئات واختلاف الأصوات والنغمات ففاضت عيناه فهو مأجور، فسبحان الله! من يذكر عبده فيذكره، فيثني عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بهذا.
يقول تقي الدين بن سكير: خرجت وراء شيخ الإسلام ابن تيمية بعد صلاة العصر من الجامع الأموي، فلما اختفى في غوطة دمشق رفع بصره إلى السماء، وقال: لا إله إلا الله، ثم فاضت عيناه، ثم بكى وقال:
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالسر خاليا
فهذا ذاكر ذكر الله في خلوة، فالنظر والاستدلال على قدرة الله بالتفكر في الكون أعظم ما يقضي على مرض الشبهة.
ثانياً: الذكر؛ فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وصف الذكر مع الفكر، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191].
يقول ابن تيمية وهو يتحدث عن أحد الملاحدة الذين أرادوا الإيمان، ولكن ما أراد الله لهم ذلك وهو أحد الفلاسفة -قد يكون ابن الراوندي، الذي يقول عنه الذهبي: الكلب المعفر الخبيث؛ الذي ألف كتاب الدامغ على القرآن يدمغ به القرآن، شكا حاله على بعض علماء الإسلام- قال: في قلبي ظلمات بعضها فوق بعض، يريد أن يهتدي لكن على قلبه ظلمات وححب وآصار وأغلال وحديد؛ حجب لا يعلمها إلا الله، يريد أن يصلي ويذكر الله فلا يستطيع، فقال له هذا العالم: عليك بكثرة الذكر بعد الصلاة، قال: لا أستطيع، قال: لا استطعت؛ قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5]؛ والله يقول: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
وقد جعل شيخ الإسلام ابن تيمية من العلاجات لهذه الأمراض الذكر، وقال: إن الله يقرن في كتابه بين التوحيد وبين الاستغفار، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] وقال عن يونس بن متى يوم أن يروى قصته: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].
وعند أبي يعلى في مسنده {يقول الشيطان: أهلكت بني آدم بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار} فأعظم ما يمكن أن يقضي على مرض الشبهة والشك والحيرة والاضطراب في الإيمان بالرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم وبالله عز وجل وباليوم الآخر وبالغيبيات بعد التفكر والاستدلال والنظر هو الذكر.
وثالثها: النوافل، وإنما قدمت الذكر لأنه أهم، بل هو أفضل من كل نافلة، فالنوافل هي التي تنهي الاضطرابات، ولذلك وجد في الشباب من تسمعه يشكو أن في قلبه اضطراباً وحيرة من خلود أهل النار في النار، كيف يخلدون؟ ولماذا يخلدون آلافاً؟ ولا أذكر الشبهات، لأنه لإيراد الشبهات لا بد أن يورد الحلول لها، وهذا المجال لا يتسع له إلى غير ذلك.
فعلاج مرض الشبهة النظر في الكون والتفكر.
ومن ذنوبنا قلة التفكر حتى أصبحت أحاسيسنا باردة من كثرة ما ألفنا، وإلا فو الله الذي لا إله إلا إلا هو إنها لآيات باهرة: الشمس، هذا الفلك، وهذا الجرم الكبير كيف يسير؟ وكيف يذهب باحتساب؟ ويذهب بتؤدة ويذهب بمقدار ثم يأتي وهكذا.
النجوم من جملها؟ الجبال من نصبها؟ الشجر من أبدع خلقه؟ الزهر من نوعه؟
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا
والنحل قل للنحل يا طير البوادي من الذي بالشهد قد حلاكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا
فالحمد الله العظيم لذاته حمداً وليس لواحد إلاكا
يقول إبراهيم بن أدهم: جلست تحت شجرة فرأيت أحد الصالحين نام، وإذا بالبعوض على وجهه وشيء من الذباب، قال: فوالله الذي لا إله إلا هو إني لبحية خرجت من جحرها فأخذت زهرة بفمها، ثم أخذت تزيح عنه البعوض والذباب.
ويقول ابن الجوزي في صفة الصفوة: رأى بعض الصالحين في أول هدايته -كان سبباً لهدايته- عصفوراً يأتي بقطع من اللحم ويذهب إلى نخلة، فقال الصالح في نفسه: العصفور لا يعشعش في النخل، فلماذا يذهب؟ فتسلق النخلة، فاطلع فرأى حية عمياء -يأتي هذا العصفور بقطعة اللحم، فإذا اقترب منها فغرت فاها فأوقع فيه اللحم، فشهد أن لا إله إلا الله وتاب.
وهذه آيات باهرات من كرامات الأولياء، يطول شرحها في هذا المقام.
وهذا مرض وأزمة خانقة واجهت شباب الإسلام، لكنها حلت بإذن الله، بكثرة علم الكتاب والسنة، وكثرة النوافل عند كثير من الشباب، وكثرة الذكر، وكثرة الموجهين، لأن الأمة تعيش في صحوة؛ نرجو الله أن يسددها ويصلحها ويهديها سواء السبيل.