ومنهن: هاجر، امرأة إبراهيم عليه السلام أيضاً أم إسماعيل، موحدة منيبة قانتة عابدة، خرجت مع إبراهيم إلى مكة، وادٍ قاحل، صحراء، جبال سود، لا شجر ولا حدائق، لا بساتين ولا أنهار، فتركها إبراهيم، وأوحى الله إليه أن اترك هاجر وولدها، واذهب إلى الأرض، قيل: إلى العراق وقيل: إلى فلسطين.
فذهب فقالت: "إلى من تكلنا يا إبراهيم؟ قال: إلى الله، ومن اكتفى به كفاه ومن احتمى به حماه، ومن التجأ إليه آواه، قالت: أمرك الله؟
قال: نعم.
قالت: إذاً لا يضيعنا الله، ترك جواباً من تمر، لا ماء ولا طعام لكن شيء من تمر، ثم التفت، فلما اختفى إبراهيم خلف الجبل دمعت عيناه، إمام التوحيد، وأستاذ العقيدة، وحامل لا إله إلا الله، اختفى عن العيون فدمعت عيناه فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37] ما أحسن الكلام! أحسن كلام في تاريخ الإنسان، وبالفعل رزقهم الله الثمرات، ففي مكة الحجاج لا يموتون من الجوع، يموتون من الشمس أما الجوع فلا، ثمرات الأرض تأتي إلى مكة، وتهوي قلوب الملايين المُمَلْيَنَة إلى مكة، يقول ابن القيم: "عجيب تتقطع الأحذية في الطريق إلى مكة، والبغال، والخيول، والجمال، وهدير الطائرات، ومخارات السفن، وجلجلة السيارات كلها تهوي إلى مكة بالملايين، مسلمو الصين ومسلمو اليابان ومسلمو السودان، كلهم يقولون: لبيك اللهم لبيك، أليس دعاء؟
تركهم، فلما ظمئ ولدُها، قامت تبحث عن الماء، سبعة أشواط وهي تبحث في الوادي، فرفس برجله، فخرج الماء فأخذت تحول الماء وتقول: زمزم زمزم، قال صلى الله عليه وسلم -رسولنا حبيبنا يعلق على القصة- قال: {رحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم لكانت وادياً معيناً أو نهراً جارياً لكنها حفته فأصبح بئراً} عليها صلاة الله وسلامه، وعلى رسولنا صلاة الله وسلامه، وفيها درس للمرأة المسلمة أن تعود وأن تلتجئ إلى الله.
شبَّ هذا الغلام وكبر، وتزوج بزوجة لكنها قليلة التوكل على الله، لا تلتجئ إلى الله، فقيرة القلب -مثل بعض النساء لو جمعت لها ملاذ الدنيا، وذهبها وفضتها وثيابها، تجدها دائماً فقيرة تتشاءم، وتقول: ليس عندنا شيء، نحن نعيش في فقر، ليتنا في حالة غير هذه الحالة، ماذا جمعني بك؟
متى يتبدل هذا الحال؟
البؤس دائماً في وجهها والفقر في قفاها، تدخل، وتدبر وتولي، وتقوم وتقعد وهي شاكية باكية، ولاجة خراجة- فأتى إبراهيم عليه السلام يزور ابنه من أرض العراق كان يجوب الدنيا ينشر التوحيد، فلما وصل إلى مكة وجد إسماعيل قد خرج للصيد في أرض نعمان فوق عرفات.
ألا أيها الركب اليمانون عرجوا علينا فقد أضحى هوانا يمانيا
نسائلكم هل سال نعمان بعدنا وخب إلينا بطن نعمان وادياً
خرج هناك يصطاد بقوسه وأسهمه، فأتى إبراهيم فطرق الباب فخرجت هذه المرأة.
قال إبراهيم: أين زوجك؟ -لا تعرف هذا الشيخ الجليل، أعظم شيخ بعد محمد صلى الله عليه وسلم في تاريخ الإنسان، ولذلك هو أول من يُكسى يوم القيامة، وهذه تزكية من الله، وليست من يحي بن معين ولا من أحمد بن حنبل ولا من البخاري، لا قال فيه: ثقة، ولا ثَبْتٌ، ولا علامة، إنما الله يزكيه من فوق سبع سماوات {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لَأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:120 - 121] أتى هذا الشيخ ولحيته بيضاء؛ لأنهم يقولون وهذا استطراد: أنه رأى المرآة فقال: يا رب! ما هذا البياض يقصد الشيب؟
قال: وقار يا إبراهيم.
قال: اللهم زدني وقاراً- فأتى بعصاه وضرب الباب فخرجت هذه الزوجة، قالت: من؟
قال: أين زوجك؟
قالت: يصطاد.
قال: كيف حالكم؟
قالت: في بؤس وفقر، ومسكنة وضنك وضنى، جائعون، ليس عندنا شيء.
قال: إذا أتى زوجك فأقرئيه السلام -والسلام لا يعرفه إلا الموحدون؛ لأن الجاهلية حوله- وقولي له أن يغير عتبة الباب، ثم ذهب إبراهيم عليه السلام، وأتى في المساء إسماعيل قال: هل أتاكم أحد؟
قالت: أتانا شيخ كبير يتوكأ على عصا، وسألني عنك فأخبرته عن حالنا، فقال: أقرئيه السلام، ويقول: غيِّر عتبة الباب، قال: هذا والدي إبراهيم وهو يعرف السلام، ويأمرني أن أغير عتبة الباب، وأنت عتبة الباب: الحقي بأهلك- لأنه في الحديث: {إن كان الشؤم في شيء ففي ثلاثة: المرأة، والفرس، والدار} بعض الدور -ونحن لا نتشاءم بل نتفاءل- إذا دخلتها أتاك من البؤس والضنك والضنى ما الله به عليم، وبعض النساء، وبعض الخيول أيضاً- فقال: الحقي بأهلك، فذهبت وتزوج غيرها.
وأتى إبراهيم بعد وقت، فأتى إلى باب ابنه فطرق الباب فخرجت المرأة الصالحة المنيبة الذاكرة التي ترى كل شيء كأنها ترى الحياة، التي تقدم لها الخبز اليابس والماء كأنك قدمت لها مائدة كسرى أنوشروان، تكون في عيش ما أحسن منه، تقول: أثابك الله.
يخبرنا بعض الفضلاء أنه عاش في ضنك وضنى وهو كبير السن، وفي فقر مدقع، فكان لا يجد الخبز إلا في بعض الأيام، فإذا أتى بالخبز قبَّلت زوجته يده وقالت: جزاك الله من خير صالحاً، والآن سوف أنقل لكم حقائق عن بعض نساء هذا العصر- فطرق الباب، فخرجت، فقال: كيف حالكم؟
قالت: في أحسن حال، وفي أرغد عيش، في سعة من الله، وفي نعمة ومنه، قال: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له يثبِّت عتبة البيت، فأتى الزوج فسألها فأخبرته، قالت يقرئك السلام، ويقول لك: ثبت عتبة البيت، قال: أنت عتبة البيت وأمرني بإمساكك.
هذه قصة إبراهيم مع إسماعيل، وهم يعيشون حياة المرأة ودورها، وقسم في منزلة بين امرأتين: امرأة لم تتكل على الله ولم ترض بقضائه وقدره، ولم تشكر نعمته، وامرأة انصرفت إلى منهج الله وأحبته، وتوكلت عليه.