وضرب الله مثلاً في القرآن للأمم والشعوب، يوم تنحرف عن منهج الله عز وجل، وتترك طرق المساجد، وتميل إلى الخمارات.
يوم تترك سماع كتاب الله عز وجل، وتميل إلى سماع الغناء.
يوم تنحرف عن منهجه صلى الله عليه وسلم وسنته المطهرة، وتميل إلى كتب الشياطين؛ شياطين الإنس والجن، ويوم تعكف وتسهر على الأفلام، والأغاني الماجنة، ويوم ترخص قيمها ومبادؤها ودينها وأخلاقها، وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، ماذا يصنع الله بها؟ يدمر شبابها، ويبعد سُبحَانَهُ وَتَعَالى علماءها، ويبتلي إناثها ونساءها، فتبقى أمة مظلومة مهضومة متأخرة، يبتليها الله عز وجل بالخوف والجوع.
يقول عز من قائل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].
قال أهل العلم: لا تزال كل قرية في أمن الله ما أقامت فروضه، وما نهت عن المعاصي التي تغضبه، فإذا انحرفت أخذها الله كما يأخذ الظالم ثم لا يفلتها أبداً، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} [الطلاق:8 - 9].
أعد الله لهم عذاباً شديداً في الآخرة، ما كفاها عذاب الدنيا، بل أعد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى لها الخزي والعار والدمار والنار؛ لأنها انحرفت عن منهج الله.
فتشوا واسألوا كل مدينة وكل قرية أخذها الله في هذا العصر، أو قبل هذا العصر، واسألوا جيراننا، ومن حولنا ومن دوننا: مالهم ابتلوا بالحروب والمنكرات والفواحش والبعد عن الله؟! إنما ابتلوا بذلك لأنهم عصوا أمر الله، وخرجوا عن طاعته سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ويوم أن يعود الشخص إلى الله ولو ببصيص من نور؛ ينصره سُبحَانَهُ وَتَعَالى ويؤيده، ويسدده ويهديه.
وقد جربنا وجرب غيرنا، وسمعنا وسمع غيرنا، أن أناساً كثيرين وقفوا في وجه الطغيان، في وجه اليهود، فما استطاعوا أن يقفوا أمامه؛ لأنهم أهل معاصٍ؛ ولأنهم خرجوا عن لا إله إلا الله، حتى أتى في هذا العصر حفنة قليلة من الناس في أفغانستان، تسجد لله، وتعترف به، وتتحاكم إلى شرعه، فوقفت في وجه أكبر قوة من قوى الأرض.
فلما رجعوا إلى الله أراهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى نصره، ورفع لهم كلمة لا إله إلا الله، وثبت أقدامهم.
فكيف لو رجعت الأمة كلها إلى الله عز وجل؟! والله لو رجعنا إلى الله لما كان في الدنيا يهود يسيطرون على بلاد الله، وعلى عباده، ويمتهنون شرائعه.
والله لو رجعنا إلى الله عز وجل لما كان هناك جوع ولا خوف، ولا دمار ولا نار، ولا عار ولا شنار، لكننا لما تخاذلنا عن أن نجتمع في بيوت الله، وأن نتناصح بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصبنا بهذا.
قال عز من قائل: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ:15 - 19].
قرية كانت منفلتة في اليمن، كانت غائصة في الحدائق والبساتين وأنواع الثمرات من بين يديها ومن خلفها، لهم سد عظيم يختزن آلاف آلاف البراميل من المياه، أغدق الله عليهم النعم، فسماؤهم مليئة بالغيوم، لا شمس لديهم تحرقهم، وثمارهم يانعة يقطفونها، حتى قال الأئمة من أمثال ابن كثير: تمر المرأة بزنبيلها فيمتلئ مما يتساقط من الأشجار.
يشربون ماءً بارداً، ويتظللون في ظل وارف، ويتعاونون في معيشة هادئة ساكنة.
فأرسل الله إليهم الرسل ليقولوا: لا إله إلا الله، وليؤدوا شكر نعمة الله، وليسجدوا له، وليتناهوا عما يغضبه، فماذا فعلوا؟ كفروا، وجحدوا، وأنكروا، وتمردوا على الله، شأن الشاب الذي لا يعرف بيوت الله، جسمه كجسم البغل، يتنهد على الأرض من كثرة النعم، ومن كثرة المشروبات والمطعومات والملبوسات، فإذا سمع الأذان كأن في أذنيه وقراً، لا يعرف طريق المسجد، إنما يعرف طريق المعصية والانحراف، فهذا مثل هذه القرية.
فأتتهم رسلهم وفاوضتهم على لا إله إلا الله، وفاوضتهم إلى الرجوع إلى الله عز وجل، وأخذتهم بالتي هي أحسن ليعودوا إلى الحي القيوم، فكفروا وقالوا: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ:19] معنى ذلك: أنهم رفضوا حتى أداء الزكاة من هذه الأموال والصدقة، وقالوا: اجعل بيننا وبين هذه القرى مسافات؛ حتى لا يأتينا فقير ولا مسكين، ولا يأتينا طالب حاجة.
فماذا فعل الله بهم؟ هل حاربهم بطائرات أو بجيوش جرارة، أو بدبابات مصفحة؟ لا -والله- أتي بفأر صغير فنحت في هذا السد، وهو سد مأرب العظيم، ثم دخل الماء وسقط السد، وذهبت دنياهم وآخرتهم، لقد اجتاحهم ماء السد، فدمر قراهم بعضها على بعض، وبيوتهم بعضها على بعض، واجتاح أشجارهم وأعنابهم ونخيلهم ومزارعهم، فصاروا حدثاً بعد عين لكل معتبر.
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً} [الفرقان:40] فأوقع الله بهم ما هم له أهل، فذهبوا وتفرقوا حتى صاروا مثلاً، فتقول العرب: تفرقوا أيدي سبأ.
وخرجوا من بلادهم على وجوههم وهم يتباكون، الحبيب فقد حبيبه، والوالد فقد ولده، والأخ فقد أخاه، والزوجة فقدت زوجها؛ لأنهم عصوا الله عز وجل.
ولذلك قيل لرجل من البرامكة الوزراء لما سجنوا في عهد هارون الرشيد: لم سجنتم وذهبت دنياكم؟ لم أخذت قصوركم؟ ولم جلدت ظهوركم؟ فدمعت عينا خالد البرمكي وقال: بغينا، وطغينا، ونسينا الله، وسرت دعوة مظلوم في جنح الليل فسمعها الله والناس عنها هجوع.
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {دعوة المظلوم يرفعها الله عز وجل على الغمام، ويقول: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين}.
ومروا برجل مقعد -كما في السير- قد نهشته الأمراض، وأصابته الأوصاب، وهو في حالة مزرية، لا يستطيع حراكاً ولا قواماً، ولا يستطيع أن يمد يده، فقالوا: مالك؟ قال: كنت في صحة وعافية، وفي قوة لا يعلمها إلا الله، وكنت إذا سمعت نداء الله أتباطأ، فيقال لي: اتق الله عز وجل، وتعال إلى بيوته، وأقم فرائضه، فكنت أقول لهؤلاء: وماذا يصيبني إذا لم أفعل؟ فابتلاني الله بهذا المرض.