الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فيقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى في محكم كتابه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * ولَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175 - 176] ضرب الله هذا المثل لكل من جحد نعمته، ورد معروفه عز وجل، فإن كثيراً من الناس ينعم الله عليهم بنعم ظاهرة وباطنة فيكفرونها ويجحدونها؛ فيسلبها سُبحَانَهُ وَتَعَالى منهم، ثم ينكل بهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى جزاء ما جحدوا من المعروف وأنكروا من الجميل.
وكثيرٌ من الناس يمنحهم الله الشباب، فيفسدون به، ويستغلونه فيما يبعدهم عنه عز وجل فيسلب الله نعمة الشباب منهم.
وكثيرٌ منهم يرزقهم الله الصحة في الأجسام، فلا يُرونَ الله عز وجل ثمرة هذه الصحة ولا العافية، فيأخذهم الله عز وجل بهذا.
وكثيرٌ يمنحهم الله الأموال فلا يؤدون حق الله فيها، بل يجعلونها سلماً إلى المعاصي، وسبباً في المنكرات والفواحش، فيأخذهم الله عز وجل، ويحاسبهم بأموالهم.
فالله عز وجل يقول: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} [الأعراف:175] وهذا الرجل اسمه بلعام بن باعوراء من بني إسرائيل، منحه الله عز وجل نعمة العلم والفهم والفقه، ولكنه لم يستغلها فيما يقربه من الله عز وجل، بل نسي حق الله وموعوده، ونسي أمره عز وجل ثم عصاه، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف:175].
هذا الرجل كما قال أهل التفسير: كان مع موسى عليه السلام، وعلمه الله التوراة فلما تعلمها ذهب إلى قوم كفار ليفاوضهم على الصلح مع موسى عليه السلام، فلما رأى دنياهم، وكنوزهم، وذهبهم، وفضتهم، استهواه هذا؛ فكفر بالله العظيم، وقدم الدنيا على الآخرة، وقدم موعود أهل الدنيا على موعود رب الدنيا والآخرة؛ فسلب الله نعمة الفقه والفهم منه، وتركه بليداً كالحمار، ومؤخراً كالخنزير، ونجساً كالكلب، نعوذ بالله من ذلك.
حتى قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} [الأعراف:176] لو شئنا أن يرتفع بلا إله إلا الله وبمعناها؛ لرفعناه بها.
وهذا جزاء العبد الذي يرتفع بالطاعة، والذي يحب أن يتقرب إلى الله عز وجل بطاعته فيرفعه الله، وأما العبد الذي يتأخر إلى المعصية، ويتأخر عن كل ما يقربه من الله، فلا يزال يتأخر حتى يؤخره الله، قال تعالى: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} [الأعراف:176] أي: قدم الدنيا على الآخرة.
قال تعالى: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176].
يقول عز من قائل: مثل هذا الرجل مثل الكلب، والكلب من طبيعته أنه يلهث، فهو يمد لسانه ويلهث سواء في الظل أو في الشمس، فهذا مثل رجل يلهث في الجهل والمعصية، سواء تعلم أو لم يتعلم؛ لأن قلبه خبيث؛ ولأن فيه مكراً؛ ولأنه صادٌ عن الله عز وجل، وإلا فلو كان فيه خير يوم أن قربه الله عز وجل إليه لعرف النعمة والجميل، ولعرف عطاء الله عز وجل فانقاد إليه.