أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام بدوي جلف لا يفهم شيئاً، تربى مع التيس والكلب, فدخل على المصطفى صلى الله عليه وسلم، فأخذ جبته وسحبها وقال: يا محمد! أعطني من مال الله الذي عندك، لا من مال أبيك ولا من مال أمك.
فغضب الصحابة، وتبسم عليه الصلاة والسلام حتى بدت نواجذه, وأراد الصحابة أن يبطشوا بهذا الأعرابي ويطرحوه أرضاً، فيضربوه ضرباً مبرحاً ينسيه أباه وأمه, فقال عليه الصلاة والسلام: خلوا بيني وبين الرجل وأخذه وشبك أصابعه بأصابعه، وأخذه يقوده إلى بيته ويمازحه ويلاطفه ويداعبه, ثم أتى به إلى غرفته وقال: خذ ما شئت من تمر وزبيب وحب وثياب, هل أحسنت إليك؟ قال: نعم.
جزاك الله من أهل وعشيرة خيراً قال: اخرج إلى أصحابي فأخبرهم بما فعلت بك، وبما قلت لي ليذهب غيظهم الذي وجدوه في أنفسهم عليك.
وخرج أمام الجماهير فقال له صلى الله عليه وسلم: هل أحسنت إليك؟ قال: نعم.
جزاك الله من أهل وعشيرة خيراً, ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله, ما رأيت معلماً قبلك ولا بعدك أحسن منك.
فقال عليه الصلاة والسلام للصحابة وهو يتبسم: {أتدرون ما مثلي ومثلكم ومثل هذا الإعرابي؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: مثلنا كمثل رجل كانت له دابة انفلتت منه فأخذ يلاحقها، فلما رآه الناس أخذوا يلاحقونهها معه, فلما رأتهم ما زادها إلا فراراً, فقال: أيها الناس! خلوا بيني وبين دابتي أنا أعلم بها، فأتى بشيء من حشائش الأرض -أي: من خضار الأرض- وأخذ يلوح به أمام الدابة حتى أتت فأمسكها فقيدها, قال: لو تركتكم وهذا الأعرابي فضربتموه لكفر فدخل النار}.
وذهب الأعرابي إلى قومه، فكان داعية فيهم حتى أسلموا عن بكرة أبيهم, فسبحان من علمه! سبحان من ثبته! سبحان من سدد خطاه على هذا التعليم!
أفلا يأخذ الأساتذة الأخيار والمعلمون الأبرار درساً من هذا الأسلوب الراقي في تعليم شباب المسلمين؟! لقد أخطأ كثير من الأساتذة والمدرسين يوم استخدموا السوط في جلد البشر، وفي ضرب أبناء المسلمين.
إن العنف لا يولد إلا عنفاً, وإن البغض لا يأتي إلا ببغض.
يقول عليه الصلاة والسلام: {ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه} فالجمل إذا رأى منك صلفاً وحدة، قطع حباله وغضب عليك وناهش وباهش! فكيف بالأجيال؟ وكيف بأبناء المسلمين؟
والرسول عليه الصلاة والسلام كان في تعليمه يخاطب الناس على قدر عقولهم, فأستاذ الابتدائي ليس كأستاذ الجامعة, فهو يريد أن يصل إلى عقول هؤلاء الناشئين وإلى أفهاهم, فلا ينبغي عليه أن يكبر عليهم المعلومات، ولا يحجم عليهم المقتضيات، وعليه أن يخاطبهم بقدر عقولهم.
جاء في صحيح البخاري أن أحد أطفال المسلمين -وهو أبو عمير أخو أنس - كان له نغر (طائر) يلعب به، فمات الطائر, فأراد صلى الله عليه وسلم أن يسلي هذا الطفل، فلما ذهب إلى بيتهم سأل أمه عن حاله فأخبرته، فقال له صلى الله عليه وسلم: {يا أبا عمير ما فعل النغير؟} قال أهل العلم: فيه درس عظيم على أن الناس يخاطبون على قدر عقولهم, وأن المعلومات تصلهم على قدر العقول.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا تكلم مع الأعراب خاطبهم بكلام يفهمونه, بكلام على مستواهم وعلى ما تبلغه أفهامهم, فإذا أتى إلى أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وجلة الصحابة، كلمهم في القضايا الكبرى.