العنصر الثاني: كيف حول النبي صلى الله عليه وسلم الجزيرة العربية من جزيرة يسكنها بدو رحل, جزيرة لا تفهم ولا تفقه ولا تعي شيئاً, أهلها قتلة نهبة، سلبة سرقة، زناة كذبة، ولو ظن القوميون أن العرب لهم مجد قبل الإسلام, وأيُّ مجد؟ مجد الإبل والبقر والغنم! مجد القتل والنهب والحقد والضغينة؟! لا والذي رفع السماء بلا عمد, ما بدأ مجدنا وتاريخنا وعظمتنا، وما ارتفعت رءوسنا إلا بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم.
أتى عليه الصلاة والسلام إلى الأمة الضائعة المسكينة الضالة، فهداها إلى الله, قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] لكن كيف علمهم؟ أعلمهم بالسوط والسيف؟ أعلمهم بالحبس والسجن؟ أعلمهم بالحديد والنار؟ لا والله، قال الله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] لو كنت سفاكاً ما اجتمعت عليك القلوب, ولو كنت قتالاً نهاباً ما أحبتك القلوب, لكن كما قال الله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159] وقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] وقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
أتيت أيها المصطفى إلى العرب الذين هم كقرون الثوم، يتقاتلون على مورد الشاة ومربط الناقة, فأتيت بالخلق الفاضل، والبسمة, واللين, والرفق والنصيحة, فانقادت لك القلوب, فحررتها من وثنيتها وشركيتها وقدتها إلى الله.
إن الدعاة الذين يحاولون اليوم أن يصلحوا بالتجريح والعنف، وبالتعريض بالناس, وبالنقد لبعض العلماء الذين لهم زلات انغمرت في بحار حسناتهم؛ هؤلاء لا يفقهون ولا يعلمون، ويفسدون أكثر مما يصلحون, وسوف يعلمون أنه ليس بأيديهم نتيجة.
يرسل الله موسى وهارون إلى فرعون السفاك المجرم، وقال لهما: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] قال سفيان الثوري كما في تفسير ابن كثير: القول اللين أن يكنياه أي: نادياه بالكنية وكنية فرعون: أبو مرة، -مرّر الله وجهه في النار- فأخذ موسى يقول: يا أبا مرة، إذا أسلمت أنعم الله عليك بملكك وصحتك وشبابك.
فالرسول عليه الصلاة والسلام جاء إلى هؤلاء البدو الرحل، الذين لا يتفاهمون إلا بلغة الهراوات والمشاعيب, فأتى إليهم بالهدوء واللين حتى قاد قلوبهم، يقول الله له من فوق سبع سموات: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:62 - 63] إنها معجزة، كيف استطعت أن تؤلف بين غطفان وبني تميم؛ وتؤلف بين قريش والأوس والخزرج؛ وتؤلف بين هوازن وفزارة، حتى أصبحوا إخواناً متحابين متصافين متقاربين؟