إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، عنوان هذا الدرس: "الجوائز السخية".
يقول عليه الصلاة والسلام: {من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا؛ نفس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسرٍ يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يطلب فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه} رواه مسلم وغيره.
هذه هي الجوائز السخية التي يعلنها عليه الصلاة والسلام للمؤمنين، إذا جعل الناس جوائز من الذهب والفضة، ومن السيارات والقصور، ومن الدور والبساتين، جعل عليه الصلاة والسلام جوائزه أغلى وأعلى وأجلَّ، أتى الناس إليه عليه الصلاة والسلام يريدون الدنيا وحطامها فأعطاهم الدنيا والآخرة، أتى الناس يطلبون بيوتاً ومزارع فأعطاهم جنة عرضها السموات والأرض.
وقف خطيباً في الناس، يقول: {أيها الناس! إني أعطي بعضكم لما جعل الله في قلوبهم من الهلع، وإني لأدع قوماً لما جعل الله في قلوبهم من الإيمان منهم عمرو بن تغلب: قال عمرو بن تغلب كلمة ما أريد أن لي بها الدنيا وما فيها} وهذا منطق المؤمن أن يقف أمام مغريات الدنيا، ويعلم أنه مهما جمع، ومهما حصل فيها فهو قليل في جانب ما عند الله {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96] يقول الزبيري:
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريبا
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا
وقد شاهد الإنسان وهو يقرأ التاريخ؛ السلاطين، والأغنياء، والأثرياء، وأرباب الدنيا، وهم يمرون كمر السحاب {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88] جمعوا وذهبوا.
في رحلة ابن بطوطة قال: " وصلت مكاناً وراء نهر سيحون وجيحون فوقفت في تربة هناك، فقال لي أحد الناس: في هذه التربة رأس ألف ملك " في هذه التربة مدفون ألف ملك من ملوك الدنيا انظر إليهم، فيقول الشاعر لما وقف على التربة:
وسلاطينهم سل الطين عنهم والرءوس العظام صارت عظاما
وكان علي بن أبي طالب في الكوفة، فدعا بإناء يشرب فيه من ماء، فأتي له بإناء من خزف من طين فخار الذي خلق منه الإنسان، فأتي بالإناء فبكى علي، قالوا: مالك؟ قال: [[الله يا طين، كم فيك من خدٍ أسيل، ومن طرف كحيل]] المعنى: كم وضع فيك من الأشلاء، وربما مزجت أنت والطين الذي معك من المقبرة، وكان فيه بقية أموات، يعبر عن ذلك أبو العلاء المعري بقصيدته الرائعة، السائرة، وهو يقول:
غيرُ مجدٍ في ملتي واعتقادي نوح باكٍ ولا ترنم شادي
وسواءٌ صوت الشجي إذا قيس بصوت النعي في كل نادي
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
صاح هذه قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد
وهذا منطق سديد، ولو أن صاحب هذه الأبيات ليس برشيد، لكن قد يقول الشيطان كلمة يصدق فيها أحياناً.
أما حبيبنا عليه الصلاة والسلام فإنه يتكلم لنا بأبلغ ما يتكلم به الإنسان للناس، ويحيي من هذه الكلمات أمة ما كان لها أن تعيش إلا بهذه الكلمات: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] والأمم لكل أمة مثلٌ أعلى، ولكل أمة وشدان وجدان؛ يعني: يشدها فمثلاً: الغربيون تشدهم الموسيقى، فالموسيقى معهم حتى في صفوف القتال، فمثلاً الصينيون يفخرون بالرقص، الشرقيون يحبون الترانيم، فهم دائماً إذا اجتمعوا ترنموا في مجالسهم، وأهل إفريقيا يحبون الألوان الباهتة والمزركشة، أما هذه الأمة فأحياها عليه الصلاة والسلام بالقرآن، حركها فتحركت وقامت مهللة مكبرة، ومع القرآن كلامه عليه الصلاة والسلام، فإن كلامه يؤثر ويصل إلى القلوب وينفع الله به.