وأخلص من هذا الدرس إلى مسائل ألخصها:
المسألة الأولى: أن الفطرة وحدها لا تكفي للهداية، وقد أخطأ الفلاسفة لما قالوا: ليس هناك داعٍ أن يرسل الله الرسل؛ لأن الله خلق السماوات والأرض وأقام الكائنات، وعرض الآيات البينات، فلماذا يرسل الرسل؟ وقد كذبوا، فالفطرة وحدها لا تكفي، ولو كفت الفطرة لاهتدى الناس، لكن الناس مفطورون على الهداية، ولكنهم يزيغون فيحتاجون إلى الرسل، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15].
المسألة الثانية: أن النور لا يأتي إلا من عند الواحد الأحد، وأن من التمس النور من غير هداية الله أضله الله، ومن التمس العافية من غير الله أمرضه الله وأسقمه وأتلفه، ومن التمس السداد من غير الله أضله وأعماه وأهلكه، فالهداية من الله، والنور من الله، وهو في الإيمان والقرآن.
المسألة الثالثة: أن النور أقسام وهذا معلوم بالنصوص، وأننا نأتي يوم القيامة على أنوارنا في الدنيا بصالحاتنا -نسأل الله من فضله- منا من يأتي كالقمر ليلة البدر، ليلة أربعة عشر، ومنا من يأتي كالكوكب الدري اللامع في السماء، ومنا من يزهر نوره إزهاراً كالنجم، ومنا من يأتي نوره كالمصباح، ومنا من يأتي نوره على رأس ظفره وأصبعه.
المسألة الرابعة: أن النور يزيد وينقص بزيادة الإيمان، ومعتقد أهل السنة والجماعة أن الإيمان ينقص ويزيد كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] والنور يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي.
ومن اعتقادنا أن موقدات الإيمان اثنان: الذكر والفكر، والذكر بالقرآن وبالتسبيح، والفكر في آيات الله الكونية وآياته الشرعية، ومما يعرض في هذا الباب أن النور ينقطع.
فإنه يكون للمنافقين في الدنيا بحسب ما استضاءوا بالنور ظاهراً.
-كيف استضاءوا بالنور ظاهراً؟ - كانوا يصلون معنا ويصومون، ونعوذ بالله من النفاق، ومن لم يخف من النفاق خيف عليه من النفاق.
قال الحسن في صحيح البخاري -معلقاً-: [[ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق]] وقال عمر لـ حذيفة: [[أسألك بالله يا حذيفة أسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين؟ قال: لا.
ووالله! ولا أزكي أحداً بعدك]].
وهناك نور يجعله الله للمنافقين بالصلوات الظاهرة فيأتي يوم القيامة لهم نور، ثم يقطع الله عنهم النور، فيتساقطون في نار جهنم: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} [البقرة:17].
المسألة الرابعة: الظلمات على أنواع ثلاثة:
كفر، ونفاق، ومعاص، والظلمة تزيد بالمعاصي، وتنقص بنقصان المعاصي، وأكثرها للكافر والمنافق، والظلمة هي معنوية وحسية كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى في الحسية: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1] وقال في المعنوية: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257] وأن المؤمن قد توجد في قلبه ظلمة، لكن لا تخرجه من الإسلام والدين.
المسألة الخامسة: وصف النور والظلمة وصفات أهل النور:
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257].
ما هو وصف الكفر وظلمة الكفر؟ ووصف الإيمان ونور الإيمان؟
أما وصف الإيمان ونور الإيمان، فيوصف بالنور وبالماء البارد على القلب، وبالحبل الممدود إلى السماء، وباستطاعتنا أن نوجد من النصوص أمثلة وشواهد لهذا.
والظلمة توصف بأمور: توصف بانعقاد الخاطر، وظلمة القبر، وتوصف بانعقاد القلب، فلا يرى النور ولا ينشرح، فيكون: {ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22].
وأهل النور -يا أيها المسلمون- هم أهل السنة والجماعة.
وصفات أهل النور - أهل السنة والجماعة - أربع صفات:
الأمر الأول: أنهم لا يأخذون منهجهم، ولا عقيدتهم، ولا عبادتهم، ولا سلوكهم إلا من الكتاب والسنة: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35].
الأمر الثاني: أنهم يقصدون بعملهم وجه الله تبارك وتعالى، فلا يشركون مع الله شيئاً في عبادتهم، ولا في أخلاقهم، ولا في سلوكهم.
الأمر الثالث: أنهم يتعاونون ويتواصون بالحق والصبر: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3].
الأمر الرابع: أنهم وسط، وقد وصفهم الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم بذلك، وهذا نور على نور، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] فهم وسطٌ في المعتقد، ووسطٌ في العبادة، ووسطٌ في الأخلاق والسلوك.
وهذه هي صفات أربع لأهل النور، وهم أهل السنة والجماعة.
فنخلص من هذه المحاضرة إلى أن أهل النور هم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، جعلنا الله منهم، وجعل الله لنا نوراً نمشي به في الناس، وأحيانا الله بالنور، وأماتنا على النور، وشرح صدورنا للنور، وهدانا إلى صراط مستقيم.