وأما الظلمات فقد ذكرها الله عز وجل في كتابه على صيغة الجمع، قال: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257] والظلمات ثلاث:
ظلمة الكفر: وهذه أعظم ظلمة نجانا الله وإياكم منها، وهي ظلمة ما بعدها ظلمة، وهي ظلمة شديدة متلفة مهلكة لصاحبها.
والظلمة الثانية: ظلمة الكبائر، فإن الكبيرة إذا أصيب بها العبد أظلم قلبه وقسا، وبعدت روحه، وشردت نفسه، ولا يكفرها إلا واحد من المكفرات العشر، التي ذكرت في بعض الدروس.
والظلمة الثالثة: ظلمة الصغائر من الذنوب، فمن نجا من الظلمات فقد نجاه الله، ومن وقع في الظلمات، فهو في ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.
ومن هم الذين ماتوا في الظلمة ولم يروا النور:
الجد بن قيس أحد المنافقين، قال له صلى الله عليه وسلم: {تعال اخرج معنا في غزوة تبوك قال: يا رسول الله! أنا رجلٌ أحب النساء، وإذا رأيت نساء بني الأصفر لا أصبر} وبنو الأصفر هم الروم، انظر إلى الكذاب الدجال، فقال الله عنه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49].
ضاع جمله في الحديبية، قالوا: تعال يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: والله! لأن أجد الجمل خير لي من أن يستغفر لي محمد، نعوذ بالله من الخذلان في الدين والحرمان في الدنيا.
أتدرون ما هو الخذلان؟
الخذلان أن يكتب الإنسان، أو أن يعتقد كفراً، أو يخدم أو أن يتكلم، أو يكون تحت مظلة الكفر؛ صحفياً، أو شاعراً، أو خطيباً، أو قصصياً، أو مسرحياً.
والكفر هو أعظم ذنب عصي الله به في الأرض، قالوا: تعال يستغفر لك، فلوى رأسه، فلماذا فعل ذلك ولم يقل: لا؟ ولماذا لم يتكلم؟ لأنه خاف أن يكشفه الوحي بكلامه، فينقل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فنقل الله الصورة والحركة لرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ} [المنافقون:5] الآية.
يقولون: حتى الحمار يلوي رأسه.
ومما يذكر أن التبغ قدم لحمار -التبغ شجر الدخان- ليأكله، فلوى الحمار رأسه، كأنه يقول: لا أريد، وهذه كالزهرة تشم ولا تعك.
ويوصف بها المنافقون: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ * سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون:5 - 6] وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5].
وحينما يذكر الله عدم الهداية يعللها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بأنهم فسقوا في أول الطريق: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5].
ومن المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول -نعوذ بالله من الكفر والخذلان- كان يصلي مع الرسول عليه الصلاة والسلام، فيقوم ويقول يوم الجمعة للصحابة: اسمعوا لمحمد، استمعوا واستفيدوا، ولكن ما استفاد هو، خرج في غزوة فتشاجر مهاجري وأنصاري، وعبد الله بن أبي من الأنصار، لكن ما ناصر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فقال يوم رأى المهاجري يتشاجر مع الأنصاري، قال: صدق الأول! جوع كلبك يتبعك، وسمن كلبك يأكلك، ثم قال كما حكى الله عنه: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون:8] فسمع ابنه الكلام، وكان ابنه عبد الله مؤمناً؛ لأن الله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم:19].
من هو عكرمة؟ إنه ابن أبي جهل، أبوه ميت، وقطعة من كلب، ميت لأنه ما آمن بالله عز وجل، فخرج منه عكرمة الذي لبس أكفانه يوم اليرموك، واستقبل القبلة، وقال: [[اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى]] وقتل في المعركة، وأتي به إلى خالد بن الوليد قائد المعركة، فقال خالد: ماذا تريد؟ فأشار إلى الماء يريد أن يشرب، لأنه لا يستطيع الكلام، فأتى خالد له بكوب ماء بارد وهو يحتضر، فلما أعطاه الماء البارد ليشرب نظر إلى عمه الحارث بن هشام، فأشار أعطه، يؤثرون حتى في ساعة الصفر كما قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] فقدموا الماء للحارث، فرأى الحارث رجلاً آخر فأشار إليه، فأبى أن يشرب قبل عكرمة، فردوا الماء لـ عكرمة فإذا هو قد مات، ثم إلى الحارث فإذا هو قد مات، ثم إلى الثالث فإذا هو قد مات، فرمى خالد بالكوب من يده، وقال: [[اسقهم من جنتك]] فهذا خرج من صلب أبي جهل.
فأتى عبد الله بن عبد الله بن أبي، وقال: يا رسول الله! ائذن لي في قتل أبي، فإني لا ترضى نفسي أن أرى رجلاً يقتل أبي ويمشي على الأرض، لكن والله إن أذنت لي لآتينك برأس أبي هذا اليوم، فقال عليه الصلاة والسلام: {بل نترحم على أبيك، ونصحبه خيراً، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه} فلما أتى أبوه ليدخل المدينة، وقف عبد الله بالسيف على مدخل المدينة، وقال لأبيه: والذي لا إله إلا هو لا تدخل حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ولم؟ قال: لأنك الأذل وهو الأعز، فإذا أذن لك فادخل؛ ويقول الله عز وجل عن هذا: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] فالعزة لله وللرسول عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين.