ويأتي ابن عمه أبو سفيان بن الحارث، فيسمع بالانتصار وقد آذى الرسول عليه الصلاة والسلام، وسبه وشتمه وقاتله، فيأخذ هذا الرجل أطفاله، ويخرج من مكة، فيلقاه علي بن أبي طالب، ويقول: يا أبا سفيان! إلى أين تذهب؟ قال: أذهب بأطفالي إلى الصحراء فأموت جوعاً وعرياً! والله إن ظفر بي محمد ليقطعني بالسيف إرباً إرباً! فيقول علي -وهو يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم- أخطأت يا أبا سفيان! إن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصل الناس وأبر الناس وأكرم الناس، فعد إليه وسلم عليه بالنبوة، وقل له كما قال إخوة يوسف ليوسف: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] فيأتي بأطفاله ويقف على رأس المصطفى صلى الله عليه وسلم ويقول: يا رسول الله! السلام عليك ورحمة الله وبركاته: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] فيبكي عليه الصلاة والسلام وينسى تلك الأيام، وتلك الأعمال، وتلك الصحف السوداء، ويقول: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92].
فهل من متسم بأخلاقه؟ وهل من مقتد بأفعاله؟ فإنه الأسوةُ الحقة، وإن اتباعه نجاة من العار والدمار والنار.
تأتيه أخته من الرضاعة صلى الله عليه وسلم، وقد ابتعدت عنه ما يقارب أربعين سنة، فتأتيه وهو لا يعرفها وهي لا تعرفه، مرت سنوات وسنوات، وأيام وأيام، وأعوام وأعوام، وتسمع وهي في بادية بني سعد في الطائف بانتصاره، فتأتي لتسلم على أخيها من الرضاع وهو تحت سدرة عليه الصلاة والسلام، والناس بسيوفهم بين يديه، وهو يوزع الغنائم بين العرب، فتستأذن، فيقول لها الصحابة: من أنت؟ فتقول: أنا أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، أنا الشيماء بنت الحارث أرضعتني أنا وإياه حليمة السعدية، فيخبرون الرسول عليه الصلاة والسلام فيتذكر القربى وصلة الرحم والوشيجة والعلاقة، التي أنزلها الله من السماء، ويقوم لها ليلقاها في الطريق ويعانقها عناق الأخ لأخته بعد طول المدة، وبعد الوحشة والغربة، ويأتي بها ويجلسها مكانه، ويظللها من الشمس.
تصوروا رسول البشرية، ومعلم الإنسانية، ومزعزع كيان الوثنية يظلل هذه العجوز من الشمس برضعة واحدة، فأين الذين قطعوا عماتهم وخالاتهم، وبناتهم وأخواتهم؟ وهم كثيرٌ! حرموهن من الميراث الذي فرضه الله لهن وقطعوهن من الصلة والزيارة؛ حتى سمعنا ورأينا من العجائز الطاعنات في السن من تقف الواحدة في فقرٍ، وهي تبكي وتقول: ظلمني! أنصفني الله منه، فأين هذا الخلق من ذاك الخلق؟! ويقول لها الرسول عليه الصلاة والسلام: كيف حالكم؟ ويترك الناس وشئون الناس ويقبل عليها ويسألها، ويقول لها أخيراً: يا أختاه اختاري الحياة عندي أو تريدين أهلك؟ فتقول: أريد أهلي، فيمتعها بالمال ويعطيها مائة ناقة عليه الصلاة والسلام، ليعلمِّ الناس صلة الأرحام قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22] معنى الآية: إذا توليتم في الأرض، وأدبرتم عن طاعة الله، وكفرتم بتعاليم دين الله، فأكملوا المعصية بقطيعة الرحم، ليستحق غضب الله، ولعنته وعذابه، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23]
فيا عباد الله: هل من واصل لرحمه علَّ الله أن يرحمنا؛ عله أن يمطر بلادنا وأن يرحم عباده، وإن الله تعالى يقطع من قطع رحمه، وإن الله يغضب إذا انتهكت محارمه؛ ولذلك يقول جل ذكره في الحديث القدسي: {أبي تغترون أم علي تجترئون؟! فبي أحلف لأنزلن فتنة تدع الحليم حيراناً}.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة، وارضَ اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنِّك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمةَ المسلمين، اللهم وحد بين صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وترضاه.
اللهم اصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك، واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم وحد كلمتهم، اللهم خذ بأيديهم إلى كل خير، اللهم انصر المجاهدين في فلسطين، اللهم أعل كلمة الحق بهم يا رب العالمين، اللهم رد على أيديهم أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، اللهم مزق بأيديهم أعداءك إخوان القردة والخنازير: الذين قتلوا رسلك وكفروا بكتابك وأفسدوا في أرضك يا رب العالمين.
اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة برحمتك يا أرحم الراحمين.
ربنا إننا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا، لنكونن من الخاسرين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.