هنا شقي آخر واسمع إلى الأشقياء وما أكثرهم في الدنيا! مسيلمة الكذاب يدعي أنه نبي، فيرسل له صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة وهو حبيب بن زيد، عمره ثلاثون سنة، لكن حبيب بن زيد تربى على القرآن، مات أبوه وربته أمه، وليس معها إلا هذا الابن البار، عاش على القرآن، لا يملك من الدنيا إلا سيفه يفلِّق به هام الأعداء، وإلا مصحفه يتصل فيه بربه، وإلا قلبه الذي وعى الإيمان والقرآن.
فيقول عليه الصلاة والسلام: {يا أيها الناس: إني مرسلكم إلى ملوك الدنيا فلا تختلفوا عليَّ، قالوا: سمعاً وطاعة، قال: قم يا حبيب بن زيد، واذهب إلى مسيلمة الكذاب} وهو يدري أنه الموت والذبح، فيتهيأ ويودع أمه وتبكي عليه؛ لكن علمت أنه أمر الرسول عليه الصلاة والسلام، وعلمت أمه أنها سوف تفارقه ولا تلقاه إلا في جنة عرضها السموات والأرض، فعانقته وهي تبكي، ولسان حالها يقول كما يقول ابن زيدون:
بنتم وبنَّا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
نكاد حين تناديكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
وذهب ووصل إلى مسيلمة، فقال مسيلمة: {من أنت؟ قال: حبيب بن زيد، قال: ماذا جاء بك؟ قال: جئت برسالة من الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: أتشهد أنه رسول؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال: أتشهد أني رسول؟ قال: لا أسمع شيئاً، قال ثانية: أتشهد أن محمداً رسول؟ قال: أشهد، قال: أتشهد أني رسول؟ قال: لا أسمع شيئاً، قال للجندي: اقطع منه قطعة، فقطع قطعة من لحمه فوقعت في الأرض، فأعاد عليه السؤال فأعاد الجواب، قال: لا أسمع شيئاً، فقطع الثانية، فأعاد السؤال، قال: لا أسمع شيئاً، فقطعه حتى قتله في مجلسه} وارتفعت روحه إلى الله: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
[[خبيب بن عدي عرض له المشركون مشنقة الموت، وقالوا: ماذا تريد يا خبيب؟ قال: أريد أن أصلي ركعتين.
قالوا: صلِّ ركعتين واستعجل، فقام فتوضأ وصلى ركعتين، فرفعوه فقال: والله الذي لا إله إلا هو لولا أن تظنوا أنه جزع بي من الموت لطولت الركعتين، اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، قالوا: أتريد أن محمداً مكانك وأنك في أهلك ومالك؟ قال: لا والله لا أريد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذى بشوكة وأني في أهلي ومالي]] ثم يقتل رضي الله عنه وأرضاه.
يقول أهل السير كـ موسى بن عقبة: كان خبيب بن عدي قبل أن يُقتل يقول: [[اللهم أبلغ عنا رسولك ما لقينا الغداة، السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا رسول الله]] هو في مكة والرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة، فأخذ صلى الله عليه وسلم في تلك اللحظة يقول: {وعليك السلام يا خبيب! وعليك السلام يا خبيب! عليك السلام يا خبيب!} وأنشد خبيب قصيدة الموت وهي قصيدة الفداء:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنبٍ كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أجزاء شلوٍ ممزع