أنا لا أقول إنه يوجد انقطاع لكن الصلة ضعيفة، فأن يأتي الشباب إلى الدعاة والعلماء فيبثوا إليهم أحزانهم وأشجانهم ومشاكلهم؛ هذا شيء يفرح به أهل العلم وأهل الدعوة، ولا أعلم عالماً ولا داعية يتضجر من ذلك، وإن تضجر فهو لظرف خاص مر به، أو لعدم الزيارة المناسبة، أو لأمر ما، فأنا أقدم العذر عني وعن إخواني من طلبة العلم والدعاة، إن وجد تضجر من الشباب، أو تذمر أو سأم، أو تبرم منهم، وهذا إن شاء الله لا يحدث إن حدث إلا نادراً.
ولكن والله إن من السعادة الجليلة التي نشكر الله عليها أن نجد شاباً يطرح مشكلة أو سؤالاً، أو يريد أن توجهه توجيهاً علمياً، أو يريد أن تدله على الطريق المستقيم، أو تحل له إشكالات يعيش فيها، أو تنقذه من أزمة لأمور:
منها: أن الله عز وجل سوف يكتب لك أجراً عظيماً بهذا الفعل {والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه}.
ومنها: أنك سوف تكسب أخاً لك.
ومنها: أنك سوف توجه هذه الطاقة المعطلة لنفع الإسلام والمسلمين.
أيها الإخوة: من المشاهد أن شباباً ملتزمين في بعض الأحيان لا أعرف أسماءهم -وهل الداعية يستطيع أن يدخل كل بيت ويقول: ما اسمك؟ لماذا ما رأيتك؟ لماذا لا تسأل؟ ولماذا لا تحضر لتستفيد من الدرس والمحاضرة؟ وفي الأخير تفاجأ به وإذا هو يسكن قريباً منك في الحي، وأنت لا تعرف اسمه- فبعض هؤلاء الشباب لم يسبق له أن جلس عند عالم أو اتصل بعالم أو داعية بل هو يركب أموره من نفسه، ويستشير نفسه، ويخطئ أكثر مما يصيب.
وهناك بعض التصرفات الغير مسئولة، لماذا لا يستشار فيها الدعاة؟ شباب يلتزم وعمره الخامسة عشرة والسادسة عشرة، فيأتي بالتزامه بالجبروت، ويستدل بأدلة من القرآن، وأنا أعرف شاباً لما التزم دخل إلى آلة في البيت فكسرها، وأتى أبوه -إي والله- في المسجد وأبوه كبير في السن وشكى لي المشكلة، فقلت له: لو سمحت أن ترسله أو تأتي به معك، فلما أتى به قلت له: لماذا تفعل هذا؟ قال: لأن الله يقول في إبراهيم: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} [الصافات:93].
وتلك أصنام وهذه أصنام، والواجب أن نغير هذه الأصنام مثلما غير إبراهيم تلك الأصنام، قلنا أولاً: إبراهيم نبي معصوم، وأنت لست معصوماً.
والأمر الثاني: أن إبراهيم يعمل بوحي من الله عز وجل وأنت لا تعمل بوحي وإنما برأيك.
والأمر الثالث: أن إبراهيم دعا ثلاثين سنة أو أربعين سنة وفي الأخير رأى أن الحل المناسب هو هذا، ثم إن إبراهيم كان يشكل كياناً، وعنده قدرة على ذلك، ويرى أن المصلحة في هذا بعد ثلاثين أو أربعين سنة.
أما أنت فأخطأت في أمور:
الأول: أنك نفرت أهل البيت.
الثاني: أنك أسأت في هذا الموقف.
الثالث: أن ثمرة دعوتك لا تحصل بهذا الأسلوب.
الرابع: أنك سوف تلحق بشباب الصحوة هذا الخطأ، وسوف يلحقوننا به جميعاً، لأنه إذا تصرف شاب قالوا: انظروا إلى هؤلاء الشباب المتطرفين، انظروا إلى الأصوليين، ماذا يفعلون، والسكاكين جاهزة مع الألسنة الحداد الشداد؟
ولو أني بليت بهاشمي خئولته بنو عبد المدان
لهان علي ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني
يأتيك شاب يقول: أنا هجرت فلاناً في الله، ولماذا؟ قال: لأنه ترك صلاة الجماعة، تقول: هل نصحته؟ قال: لا.
ما نصحته، ولكن والله لا أسلم عليه ولا أزوره، ولا يدخل بيتي ولا أراه! فهل هذا هو الأسلوب المناسب، وهل إذا استخدمنا هذا الأسلوب سوف ننجح؟ وهل فعله محمد صلى الله عليه وسلم؟
محمد صلى الله عليه وسلم زار الكفار في بيوتهم، وزار المنافقين في منازلهم، ودخل مع اليهود، ودخل مع النصارى، الداعية كالطبيب يدخل على المرضى في غرفهم، لا يدخل المرضى عليه في غرفته.
فالرجاء من الإخوة أن يستشيروا الدعاة وطلبة العلم، أي: ما عليك كلفة أن ترفع السماعة وتستشير داعية، قد يكون أكبر منك سناً أو صاحب تجربة، ومن هو أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة، والحياة تجارب، ومن عاش في الحياة يرى الأعاجيب، والعجيب أن الإنسان عندما يتأمل قبل سنة وهو الآن في مجال الدعوة، قد يتطرق إلى مقولة قالها يجب أن تصحح، والذي لا يستفيد من جدوله، ولا من حياته غشوم ظلوم أو فيه غفلة، بل اليوم تفتش سجلك بالأمس، وتنظر هل من المناسب أنك قلت تلك الكلمة وتلك المحاضرة وأشرت بذاك الرأي، فتجد أحياناً أنه من الخطأ، فالمطلوب مراجعة العلماء وطلبة العلم والدعاة والانضمام معهم، والالتفاف حولهم؛ في الاستشارة وأخذ الرأي وإسداء النصح، ولا أعلم إن شاء الله داعية أو عالماً سوف يكون غشاشاً لك، والله لا أعلم داعية ممن يدعو إلى الله أو عالماً يريد أن يغش المسلمين، أو لا ينصح لهم، أو لا يريد راحتهم، أو يريد سوءاً بالبلاد، أو يريد زعزعة في استقرار الناس وفي سكينتهم، لا أعلم ذلك، وأن من ظن بالدعاة وبالعلماء ذلك الظن فقد ظن بالله ظن السوء، وظن بأوليائه ظن السوء، فعليهم دائرة السوء: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5].
بل نرى النصح، وعلم الله لقد رأيت كثيراً كسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، إنه كالشمس وهو في الثانية والثمانين سنة، وهو عالم المسلمين في الكرة الأرضية، وهو شيخ الإسلام والممثل والنموذج الحي لـ أهل السنة والجماعة، تجده يقف مع الشباب الذين في المتوسط والثانوية في الشمس، ويسمع لأفكارهم وقصصهم وأخبارهم ومشاكلهم ويحلها برحابة صدر ويدعوهم إلى الغداء والعشاء في بيته، وكذلك الدعاة على منهج سماحة الشيخ، لا أعلم داعية ينفر من الشباب، أو يعترض عليهم، أو يبكتهم، أو يطردهم من بيته، لا أعلم ذلك.
أسال الله لنا ولكم التوفيق والهداية، وأكرر شكري وتبجيلي وثنائي العاطر لمن قام على هذا المعسكر الحي النموذجي، الذي إن دل على شيء؛ فإنما يدل على أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أمة تستطيع أن تجدد من أساليب الدعوة، وأن عندنا الكثير من البدائل الإيمانية التي نحتضن بها الشباب، فليست حياتنا في أن نوجد بدائل لمن يتزلج على الثلج، أو يسافر إلى الخارج ليفسق هناك، أو يضيع أو يجلس في المقاهي بلا منهج تربوي، عندنا من البدائل كالمعسكرات والمخيمات والمراكز، وجماعة تحفيظ القرآن الخيرية، والمحاضرات والندوات ما نحتضن به الشباب، ونحييهم ونرحب بهم، ونعطيهم من أفكار نخبة من الأساتذة المربين المثقفين، المؤيدين بحفظ الله عز وجل، الذين يدلونهم على منهج الله.
أنا سعيد جداً سعادة لا يعلمها إلا الله لأني حضرت هنا عند إخواني وزملائي كي نتشارك في الرأي، ونقدم المشورة والنصيحة وأسعد بإخواني، فهم أبناء عمومة وإخوان وأقارب، ولو لم يكونوا كذلك فبيني وبينهم قرب ونسب أتى به محمد عليه الصلاة والسلام: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].
وفي أثناء الدراسة أذكر أني شاركت مع بعض الإخوة في سبع مخيمات تربوية كبرى، يستمر بعضها أسبوعاً وبعضها أسبوعين، والله لا أعرف مخيماً انصرفنا منه إلا ونحن نبكي على بعض، وكان الوداع عندنا مشهداً مؤثراً، كنا نتوادع في الصباح، فكان يصفنا المشرفون، ثم نقف طابوراً طويلاً وصفاً طويلاً فنبدأ في الوداع، والله ما ينتهي الوداع إلا والبكاء خوار.
فارق إذا فارقت غير مذمم وأمم ومن يممت خير ميمم
وما منزل اللذات عندي بمنزل إذا لم أبجل عنده وأكرّم
رحلت فكم باك بأجفان شاجن عليّ وكم باك بأجفان ضيغم
رمى واتقى رميي ومن دون ما اتقى هوى كاسراً كفي وقوسي وأسهمي
أو كما قال ابن زيدون في مثل هذه اللقاءات إذا فارق الحبيب حبيبه، شاب ترك أسرته من الشمال وأتى إلى الجنوب ليلقى إخواناً يدفعون مهجهم وراحتهم وأموالهم ترحاباً به، فيفارقهم ولسان حاله يقول:
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
تكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
ويقول:
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.