قال ابنه عبد الله: دخلت على أبي وهو جالس في البيت متربعٌ مستقبل القبلة، ودموعه تنهمر على خديه، فقلت: يا أبتاه! مالك؟ قال: تذكرت في هذه الغرفة موقفي في القبر وحدي لا أنيس إلا الله.
قال: فأراك متربعاً لماذا لا تتكئ وتريح نفسك؟ -لأنه شيخ كبير- قال: أستحي أن أجالس الله وأنا متكئ، أما يقول الله: أنا جليس من ذكرني.
دخل عليه الأديب الكبير ثعلب، فقال له الإمام أحمد: ماذا تحفظ من الأدب والشعر؟ قال: أحفظ بيتين.
قال: ما هما؟ قال: قول الأول:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيبُ
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيبُ
فوضع الإمام أحمد الكتاب من يده وقام وأغلق على نفسه باباً وبقي في الغرفة، قال تلاميذه: والله لقد سمعنا بكاءه من وراء الباب، وهو يردد البيت:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيبُ
ولا تحسبن الله يغفل طرفةً ولا أن ما يخفى عليه يغيبُ
ورحم الله القائل:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
كانت أكبر أمنية في حياته أن يحمل السيف مجاهداً في سبيل الله.
نظر إلى قدميه وقت الوفاة فبكى، وقال: يا ليتها جاهدت في سبيل الله! لكنه -والله- جاهد أعظم الجهاد، فقد بذل علمه، وخلقه، وجاهه، وبذل ماله، وكل ما يملك في رفع لا إله إلا الله؛ فكان إمام الدنيا بحق.