قال: فلما بلغت السادسة عشرة من عمري، قالت لي أمي: اذهب في طلب الحديث، فإن السفر في طلب الحديث هجرة إلى الله الواحد الأحد.
قال: فأعطتني متاع السفر.
أتدرون ماذا أعطته من الزاد؟! كم أعطته من الألوف؟! كم أعطته من الدراهم والدنانير؟! ما كانت تملك شيئاً، وإنما صنعت له ما يقارب عشرةً من أرغفة الشعير، ووضعتها في بقشية من قماش معه، ووضعت معها صرة ملح، وقالت: يا بني! إن الله إذا استُودع شيئاً لا يضيعه أبداً، فأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه.
فذهب من عند أمه من بغداد، عاصمة الدنيا، دار السلام، لماذا ذهب؟! أذهب للسياحة كما يفعل اللاهون اللاغون اللعابون؟! أم ذهب إلى التفرجة كما يذهب السادرون المخمورون المسرفون؟! أم ذهب إلى تزجية الأوقات والتدحرج على الثلج كما يذهب الذين رفعت عنهم أقلام التكليف؟! لا، بل ذهب يبحث عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى جانب المصطفى عليه الصلاة والسلام، إلى مكة والمدينة:
من زار بابك لم تبرح جوارحه تروي أحاديث ما أوليت من منن
فالعين عن قرة والكف عن صلة والقلب عن جابر والسمع عن حسن
فذهب رضي الله عنه وأرضاه.
قال: مضيت من بغداد على رجلي إلى مكة، فضعت في الطريق ثلاث مرات، فكنت كلما ضعت استغفرت الله، ودعوته، وقلت: يا دليل الحائرين! دلني، فوالله ما أنتهي من كلامي إلا ويدلني دليل الحائرين على الطريق.
من هو دليل الحائرين؟ إنه الله، من هو ملجأ الخائفين؟ إنه الله، من هو مناص العارفين؟ إنه الله.
فكان كلما ضاع في الصحراء التجأ إلى الله، ليس عنده علامات، ولا هناك مواصلات، ولا نقلٌ ولا خطوط، صحراء يبيد فيها اللبيد، ويضيع فيها الذكي والبليد، فضاع الإمام أحمد ولكن رد اتجاهه إلى الله: {احفظ الله يحفظك} فلما حفظ الله؛ حفظه الله في سمعه وجوارحه ودينه ومستقبله وسمعته إلى يوم القيامة، وحفظ الله اسمه للملايين، عند مسلمي الصين واليابان والملايو والعراق والجزيرة وسوريا والجزائر، ومسلمي أمريكا، كلهم يسمعون بـ أحمد بن حنبل؛ لأنه حفظ الله.
ثم وصل إلى مكة وأخذ الحديث من أهل مكة، وبعدها سافر إلى اليمن إلى صنعاء، إلى عبد الرزاق بن همام الصنعاني يطلب الحديث، وبينما هو في طريقه ضاع مرة رابعة، قال: وانتهت نفقتي من الخبز، أما الدراهم فما كان عندي دراهم، فماذا فعل؟ قال: نزلت إلى قوم أهل مزارع يحصدون ويصرمون، فأجرت منهم نفسي ثلاثة أيام.
يا سبحان الله! إمام الأئمة الذي يحفظ ألف ألف حديث كما يقول الذهبي وابن كثير، يحفظ مليون حديث، بل ما حفظ أحدٌ من الأمة أبداً كحفظ أحمد، يؤجر نفسه من الحصادين فيحصد معهم!! ووصل بحفظ الله إلى صنعاء، وأخذ الأحاديث النبوية وكتبها.