إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا لله تعالى حق التقوى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
معاشر المؤمنين: تعلمون أن جميع بني البشرية يرغبون العيش في مجتمعات تملؤها السعادة والطمأنينة، والأمن والطمأنينة اللتان تُحَقِّقا السعادة لا يمكن أن تتحقق إلا بتحكيم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ذلك المنهج الرباني الشامل الضامن لسعادة البشرية، الذي لا يطرأ عليه زيادة ولا نقص، ولا يمكن أن تتخلف حكمه في أي زمان أو مكان.
{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
أيها الأحبة في الله: وسعادة البشرية حينما ترتبط بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتطبيقها في شتى مجالات الحياة، ومن بينها وأهمها: مجال الأمن والأمان والطمأنينة، مجال الحدود والقصاص والمعاملات، فإن الله جل وعلا يوم أن شرع ذلك لم يشرعه عبثاً، وإنما شرعه لعباد هو الذي خلقهم، وهو أدرى بما يزجرهم، وهو أدرى بما ينفعهم، وجعل هذا أمراً مشروعاً، بل جعله من أعظم المنن عليهم، وجعل قيامهم به سبباً لرفاهيتهم ونعيمهم، وتدفق النعم عليهم من سائر الأنحاء والبلدان.
أيها الأحبة في الله: إن مجتمعاً تملؤه العقيدة ويعلم أفراده أن الجزاء في الدنيا, وبعده الجزاء في الآخرة، لكافٍ في أن يرتدع أفراده عن أن يعتدي بعضُهم على بعض.
إن مجتمعاً تملؤه العقيدة يعلم أفراده أن الخير لا يضيع، وأن البر لا يُنسى، وأن الحسنة بعشر أمثالها، وأن من عمل صالحاً فلنفسه، ويبارك الله له فيما عمل من الصالحات، ليتنافس أفراد هذا المجتمع، في المسابقة إلى الطاعات والخيرات، وبر بعضهم لبعض، ونفع بعضهم بعضاً، هذا يكون في مجتمعات العقيدة.
أما المجتمعات التي تحكمها القوانين الوضعية والأنظمة البشرية فهي كما قال القائل:
كلما أنبت الزمانُ قناةً ركَّب المرء للقناة سناناً
لا يدع أفراد مجتمع تحكمه القوانين فرصة للاحتيال على الأنظمة أو التشريعات إلا وثبوا عليها، واستغلوها، وانتهزوها؛ لتحقيق مطامعهم ومآربهم، ولو كان في ذلك إزهاق الأرواح، وسفك الدماء، وإثارة القلق، وقلب الأمور إلى الفوضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
نختصر هذا الكلام -أيها الإخوة- لنقول: إن الله جل وعلا شرع القصاص والحدود والعقوبات على جرائم معينة محددة؛ لضمان سلامة أفراد المجتمع، ولضمان سعادتهم، ولبقاء علاقاتهم على حد من الثقة والأمانة، ولولا ذلك ما باع أحدٌ ولا اشترى، وما سافر ضاعن ولا ارتحل، وما تحرك مقيم ولا سكن؛ لكن يوم أن يعلم الناس أن الله رقيب على العباد، وأن العباد يخشون الله فيما يفعلون، وبعد هذا شرع الله عقوبات لتردع كل ظالم، ولتخوف كل من تسول له نفسه، عند ذلك يطمئن أفراد المجتمع إلى هذا.
يقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178].
ويقول الله جل وعلا: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179].
الله أكبر -يا عباد الله- تأملوا هذه الآية، جعل الله حياة الأرواح في القتل {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:179] وتقول العرب قبل ورود البعثة النبوية عليهم: القتل أنفى للقتل.
فكلام الله أبلغ وأسمى وأجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179].
نعم -أيها الأحبة في الله- إذا قُتل القاتل، قُطع دابرُ القتل، وإذا عوقب المعتدي قُطع دابرُ الإفساد، أما إذا تُرك الأمرُ على علاته، وأُطلق الحبلُ على غاربه، عند ذلك هذا يقتل، وهذا ينتقم، ثم يسري القتل كما تسري النار في الهشيم اليابس، ولا يبقى على الأرض مطمئن، ولا متلذذ بأمن أو دعة، ولذلك شرع الله القصاص، وجعله عقوبة للقتل في ألوان من الجرائم والعقوبات.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة، والثيب الزاني).
ويقول صلى الله عليه وسلم في جعل القتل عقوبة مشددة فوق العقوبة المشروعة في حد الزنا: (من وقع على ذات محرم فاقتلوه).