إني أعجب من شبيبة -أسأل الله لي ولهم الصلاح والهداية- يوم أن تقع نازلة، أو تحل مسألة، فإذا سمعت قول كبار العلماء، وإذا التفت إلى اجتهادهم، أبطول تجربة وعمق بصر وبصيرة، وفهم وإحاطة شاملة للنصوص والأدلة، أخذت قولهم ورأيت رأيهم واتبعت منهجهم، فرأيت من يخالف ومن يلوم من يخالف وهم ينهون عنه وينأون عنه، فإن كان ولابد، فلا أقل من أن تأخذ ما وقفت عليه، ولتعلم أنك متبع للهوى في ذلك، ما معنى أن تعمل بقول ابن باز وقول ابن عثيمين في كثير من المسائل فإذا جاءت مسألة معينة قلت: لا، هذا قول لا أقبله، وهذا قول لا أتبعه.
أو قول من قال: إن المشايخ لا يفهمون، إن العلماء لا يدركون ومتى غاب عنهم شيء فتح عليك؟ ومتى جهلوا شيئاً علمته؟ ومتى عضلت عليهم مسألة فهمتها أنت؟ فيا سبحان الله!
ومن يثني الأصاغر عن مراد إذا جلس الأكابر في الزوايا
وإنّ ترفع الوضعاء يوماً على الرفعاء من أقسى البلايا
إن العدل كل العدل في منهج نعيشه أن نرد الأمور صغيرها وكبيرها إلى علمائنا الأجلاء، وكبار علمائنا الصالحين ممثلين في سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، ومحمد بن صالح بن عثيمين، ومن وافقهم ونهج نهجهم، والجميع على هدي من النبي صلى الله عليه وسلم، نحسبهم كذلك ونسأل الله لهم ذلك.
وأما ما سوى ذلك أيها الأحبة، فدعونا من بنيات الطرق، وإن الحجة واضحة، والمحجة بينة
عطاينا سحائب مرسلات ولكن ما وجدنا السائلينا
وكل طريقنا نور ونور ولكن ما رأينا السالكينا
أيها الإخوة عجبت ذات يوم وكنت حينها في باكستان، أيام الجهاد في بيشاور، فجلست مع شبيبة أخذوا يتكلمون، لا حديث لهم إلا في الحكام وفي الذوات وفي العلماء، فقلت: يا عباد الله ألا تدعوننا ننام هذه الليلة سلمنا من غيبة أعراض وهيئات وذوات.
فتطاول البعض منهم إلى حد التكفير، وقال: فلان كافر، وفلان فيه، وفلان كفر.
فقلت: يا سبحان الله! إنك يوم القيامة إن لم تتكلم في واحد من هؤلاء لن يسألك الله عنهم، ولن يحاسبك الله لماذا لم تتكلم في فلان وعلان، لكن إن تكلمت في أعراضهم فزللت في ذواتهم وهيئاتهم ستحاسب عن كل صغيرة {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].
المهم أنهم تكلموا وتحدثوا وهاجوا وماجوا، واضطرب الحديث واختلف حتى باتوا في حيص بيص، فقلت لهم -وهم من أجناس مختلفة- قلت: يا إخواننا مثلاً لو قلت لك في مصر، أو سوريا أو في تونس أو في الجزائر لو قلت لك: إن هيئة أنشئت للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقلت لك: إن قراراً صدر بفصل البنين عن البنات، وقلت لك: إن الدكاكين والحوانيت تغلق وقت الصلاة، وقلت لك: إن القاتل يقتل والسارق تقطع يده، والزاني المحصن يرجم، وقاطع الطريق يقتل، وإن هناك محاكم شرعية، وقلت لك أيضاً: لا تجد باراً مرخصاً أو حانوتاً للزنا مقنناً، وقلت لك وقلت لك من هذه الأمور، أنها عادت إلى بلادك وحكم بها ألا ترى في تصورك أو ظنك أنها خلافة راشدة عادت من جديد؟ قال بعضهم: والله بلى.
قلت: إذاً فما بالكم تسلطتم علينا في مجتمعنا، ولا هم لكم إلا بلادنا، أنتم كذا وأنتم أذناب، وأنتم عملاء، وأنتم منافقون، وأنتم مداهنون؛ والمصيبة -أيها الأحبة- أن هذه الشنشنة الأخزمية نسمعها لا أقول في كثير من الأحيان، بل في بعض الأحيان من أناس لم يخبروا حقيقة الأمر، بل في زغرد أيام مؤتمر حقوق الإنسان في البوسنة والهرسك قابلت رجلاً من المشهورين، وأخذت أتحدث معه فقليلاً حتى نزل في مجتمعنا وأصبح لا يتكلم عنا إلا بالسيئات، فقلت له: هل يوجد في بلادكم كذا؟ هل يوجد كذا؟ هل يوجد مثل ذلك؟ فقال: لا.
قلت: يا أخي الحبيب إن كان ولابد فانظر إلى مجتمعنا بالحسنات والسيئات، ثم إني أسألك الآن عن البلاد التي سميت الآن بلاداً إسلامية، أو وصل الإسلاميون فيها إلى الحكم سددهم الله وأعانهم وثبتهم، هل هدموا القبور والأضرحة؟ هل منعوا التوسل بالأولياء؟ هل منعت المزارات؟ هل ألغي الشرك الأكبر الذي هو أكبر من الربا الذي تحدثني عنه؟ نعم والله ما مررت ببنك إلا وأنا بدلاً من أقرأ بنك كذا، إلا أقرأ في المقابل لوحة اسمها لعنة الله ورسوله على كذا وكذا؛ لأن الله جل وعلا قال: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] وقال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه) نعم ننظر إلى مجتمعنا بحسناته وسيئاته، بأخطائه وصوابه، بما فيه من الخير وما فيه من الشر، ولكن أن نعطي العقول غيرنا ثم ننصب من أنفسنا أعداءً لحكامنا، أو أن نرى أننا نخالف كبار العلماء منا، فإذا جاءت المسألة الفلانية قلنا: قال ابن باز وقال ابن عثيمين، وإذا جاءت الأخرى قلنا: لا، قال فلان وعلان؟ {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] أفنسمع لهذا تارة ونترك ذاك تارة، أم جعل العلماء للحيض والنفاس والصوم والصلاة والزكاة، وجعل غيرهم لأمور السياسة والاقتصاد وغيرها؟ إن العلماء هم العلماء، في السياسة والاقتصاد والطهارة والحج والصلاة والزكاة، وإن التفريق الذي نراه من البعض إنما هو شر ونذير شؤم وخطر على الأمة، وإن نهايته أن يفترق الناس إلى مدارات ثلاثة: مدار الحكام، ومدار العلماء، ومدار الدعاة.
وهذا خطر عظيم، لا نسمح ولا نرضى ولا يجوز شرعاً أن يوجد، بل لا حلف في الإسلام، ولا يجوز أن يقوم هذا ليكون نواةً لمجموعات أو أحزاب، إذ أن البلاد أمة، والمجتمع أمة، هي أمة واحدة، منهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات، فمن أحب هذا ورضيه وسأل عنه وناقش العلماء فيه؛ فإنه على خير، ومن أعرض عنه ولم ير إلا ما يشتهي أو ما ردد؛ فله من ذلك ماله وعليه من ذلك ما عليه.
اللهم رب جبرائيل وميكائيل ورب كل شيء ومليكه، فاطر السماوات والأرض، أنت ولينا في الدنيا والآخرة، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
أسأل الله أن يجمعنا وإياكم في الجنة، وأن يصلح لنا ولكم النية والذرية، وأن يعصمنا من الهوى والنفاق والرياء، ونسأله سبحانه أن يصلح شبابنا وعلماءنا وحكامنا ودعاتنا، وأن يجمع شملنا.
يا حي يا قيوم اللهم صل على محمد وآله وصحبه.
وأقم الصلاة.