قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} وهم اليهود والنصارى {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:75] فهؤلاء اليهود الذين تعلمون ما كان منهم، فقالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181].
أيها الأحبة هؤلاء الذين تجرءوا على ذات الله إن ذلك كله لم يمنع من العدل الإلهي أن يذكر فيهم طائفة إذا ائتمنوا بقنطار -بجبل من الذهب- أدوه، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك، فالله جل وعلا يذم اليهود من حيث العموم، ونحن نقرأ في الفاتحة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] فاليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون، ولكنه في الوقت ذاته يبين ربنا جل وعلا بأن بعضهم يلتزم بأداء الأمانة ولا يخونها؛ ولهذا قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} أي: بغضاء وكراهية قوم {عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] واسمعوا هذه الصحاح التي نقلت عن بني إسرائيل، الذين ذكر من شأنهم ما ذكر من تركهم الأمر والنهي والتلاهي، وذكر ما ذكر فيهم من اللعنة: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة:78] فهم بالعموم وبالجملة قد ذكروا في معرض الذم والتثريب على سوء فعلهم، ولكن لا يمنع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر أن فيهم من إذا اؤتمن أدى الأمانة، ومن إذا اقترض أدى ما عليه، ورد في صحيح البخاري حديث طويل في رجل من بني إسرائيل استقرض من صاحب له ألف دينار إلى أجل مسمى، فلما جاء الأجل، وأراد ذلك الرجل أن يؤدي القرض ويؤدي الدين، التمس مركباً يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجله، فلم يجد مركباً، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار، وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها ورمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف وهو يلتمس مراراً مركباً يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه، ينظر لعل مركباً قد جاء بماله -أي أن الذي أقرض ذلك الرجل خرج ينتظر غريمه، لعله يأتي بالدين- فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهله حطباً، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه وأتى بالألف دينار فقال: والله ما زلت جاهداً في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركباً قبل الذي جئت به.
قال الآخر: فإن الله قد أدى عنك، بعثت بالخشب، فانصرف بالألف دينار راشداً.
وإن كان يوجد في أهل الكتاب من له عقل وصدق وأمانة قد لا توجد في بعض المنتسبين إلى الإسلام كما قال تعالى في الآية التي ذكرناها آنفاً: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران:75].