الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
معاشر المؤمنين تحدثنا في الخطبة قبل الماضية عن العدل والإنصاف في النظر والحكم على الأشخاص والمجتمعات والهيئات والذوات، ومر بنا الحديث عن خطورة العجلة وإطلاق اللسان في الأمور قبل إدراكها وسبر أغوارها، وأن السلامة من الهوى مظنة الحكم بالعدل والحق، وإذا أعمل الرجل عقله ولبه ونبذ تقليد الرجال بغير دليل وبات جريئاً في السؤال لإدراك أبعاد الأمور دون هز الرءوس عند أدنى المسلمات، والاكتفاء بذلك عن التحقيق والتنقيب للوصول إلى حقائق الأمور وجوهرها.
والكلام اليوم بعون الله تعالى في تتمة هذا الأمر، فاعلموا يا عباد الله أن من أسباب الجور في الحكم ومن أسباب قلة التوفيق إلى العدل: أن يفترض الناظر العصمة في مجتمعه وأفراده ومن حوله، والهيئات والمؤسسات العاملة فيه، وبمعنى آخر: ألا يتصور حدوث الخطأ والزلل من قبيله وقرينه ومن حوله، متناسياً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) ولو صح أن العصمة موجودة في البشر، وأن من حولك لا يخطئون، وأن من صلح لا يمكن أن يحدث منه الزلل والخطيئة، لو صح ذلك، فما منزلة ومكانة آيات التوبة والمغفرة والأحاديث الواردة في ذلك؟ أليس ورود هذه الآيات دليل صريح على أن في المؤمنين من يعصي ويستغفر، ويزل ويتوب، ويخطئ وينيب؟ أيها الأحبة فأما الزلة والخطيئة فمعفو عنها بالتوبة والاستغفار، ومعفو عنها بالحسنات الماحية للسيئات، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] وأما الخطأ الصادر عن اجتهاد أراد صاحبه الحق فلم يوفق إليه؛ فذاك معفو عنه، وأما من عرف خطأه وضلاله، لفساد منهجه وخبث طويته وإصراره على ذلك؛ فذاك الذي ينبغي مناصحته وأمره ونهيه بالسبل والوسائل الشرعية المفضية إلى تحصيل المقصود بالمعروف دون حدوث المنكر، أو زيادة في حجم المنكر، وبالجملة فإن قليل السيئات مغفور مع كثير الحسنات، وحسبك ألا معصوم إلا نبي فيما يبلغ عن ربه، وكفى المرء نبلاً أن تعد زلاته، وصدق القائل:
إذا أنت لم تصبر مراراً على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
فعش واحداً أو صل أخاك فإنه مقارف ذنب مرة أو مجانبه
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
قال ابن الأثير الجزري رحمه الله: وإنما السيد من عدت سقطاته، وأخذت غلطاته، فهي الدنيا لا يكمل فيها شيء.
ويقول ابن القيم رحمه الله: وكيف يعصم من الخطأ من خلق ظلوماً جهولاً؟ لكن من عدت غلطاته أقرب إلى الصواب ممن عدت إصاباته.
واعلموا أيها الأحبة أن مما يوقع في الجور وسوء الحكم والفهم أن ينظر الواحد بعين لا ترى إلا المساوئ دون المحاسن
شر الورى بمساوئ الناس مشتغل مثل الذباب يراعي موقع الخلل
إن من لا يرى إلا المساوئ دون المحاسن إن ذلك مما يوقع في الجور وسوء الفهم، وإن مما يوقع في المداهنة والنفاق وفساد التصور، ألا يرى الواحد إلا المحاسن دون المساوئ، وكل هذين خطأ:
فلا تكن فيها مفرطاً أو مفرَّطاً كلا طرفي قصد الأمور ذميم
فإما أن ترى راضين مُسلِّمين لا يظنون أن في الإمكان خيراً مما كان أو مما يرون أو يسمعون، أو ترى ساخطين لا يرون أن فيما يرون ويسمعون شيئاً من الخير أو الصواب، ولو رأوا خيراً أولوه، ولو رأوا صواباً على شر حملوه، وهم كما قال القائل:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا