واقع العدل والإنصاف

الحمد لله القائل في محكم كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:8] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله تعالى حق التقوى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].

معاشر المؤمنين إن العدل والإنصاف في هذا الزمان بات عزيز المنال لدى الكثيرين إلا من رحم الله وقليل ما هم، فالمسلم مأمور أن ينصف من نفسه ومأمور أن يعدل في قوله وحكمه وفعله، لا أن تأخذه الحمية أو العاطفة، أو يغلبه التقليد والتبعية، أن يرى ما يراه الآخرون، أو يصدق ما ينقله الناقلون من غير دليل وبرهان فيكون كما قال القائل:

وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد

بل الواجب العدل في كل حال، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأمور الناس إنما تستقيم في الدنيا مع العدل، الذي قد يكون فيه الاشتراك في بعض أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم يشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة.

ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام؛ وذلك أن العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الدين من خلاق، ومتى لم تقم بالعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة.

وفي هذا الزمان -أيها المسلمون- الذي عز فيه العدل والإنصاف، يحتاج المسلم إلى الرجوع إلى منهج السلف، ليقيس الأمور بمقياس الكتاب والسنة، حيث أصبحت الأهواء هي التي تتحكم بآراء الناس وأقوالهم، حتى أن الإنسان قد يتغاضى عن أخطاء من يحب مهما كانت كبيرة، بل يبررها، بل تتحول هذه الأخطاء إلى محاسن ويجعل محبوبه في أعلى المنازل، ولا يقبل فيه نقداً أو مراجعة، وفي المقابل ترى بعض الناس إذا أبغض أحداً لهوى في نفسه أو تقليداً لغيره، جرده من كل فضائله، ولم ينظر إلى حسناته، أما زلاته فيفخمها وينسى أو يتناسى محاسنه الأخرى مهما كانت بينة، وليس هذا غريباً، وليس غريباً أن توجد العداوات من أهل الأهواء والضلالة، قال ابن الوردي رحمه الله:

ليس يخلو المرء من ضد ولو حاول العزلة في رأس الجبل

وقال الآخر:

لو كنت كالقدح في التقويم معتدلاً لقالت الناس هذا غير معتدل

وقال الثالث:

إن نصف الناس أعداء لمن ولي الأحكام هذا إن عدل

لكن المسلم الذي يحاسب نفسه يزن بميزان الشرع ويحكم بالقسط، إن سيئات الفرد لا تمنع ذكر حسناته، إن سيئات المجتمع لا تمنع ذكر حسناته، إن سيئات الدولة لا تمنع ذكر حسناتها، وإن حسنات الفرد أو المجتمع أو الدولة لا تمنع من إصلاح سيئاتها، إذا كان سياقها لمصلحة على وجه النصيحة لا التعيير، وعلى وجه الإرشاد لا الشماتة، ما لم يبلغ الفساد والخلل حد الكفر، فليس بعد الكفر ذنب ولا ينفع مع الكفر حسنة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015