أيها الأحبة: إن أناساً يقولون: كيف السبيل إلى نعيم الجنة؟ ولا يمكن أن نصل إليه أو أن نسلك سبيله إلا إذا أصبحنا رهباناً، نلبس المسوح، وننقطع عن الناس، ونعتزل عن المجتمع، ونظمئ الأكباد في النهار، ونتعب الأقدام طيلة الليل.
أيها الحبيب! هذا منطق يحتاج إلى تأمل، أما الذين يظنون أن الجنة لا تبلغ إلا بالرهبنة، ولا تبلغ إلا بتحريم نعيم على النفوس نعيماً قد أباحه الله، فذلك ليس بحقٍ أبداً: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] من هذا الذي يظن أنه لا ينال الجنة إلا إذا شدَّد على نفسه أمراً جعل الله له فيه فرجاً؟ من هذا الذي يظن أنه لا ينال نعيم الجنة إلا إذا ضيَّق على نفسه أمراً جعله الله واسعاً؟ من هذا الذي يظن أنه لا ينال نعيم الجنة إلا إذا ترك طيباتٍ قد أحلها الله لعباده المؤمنين وتكون خالصة في الجنة بإذن الله لعباده الصالحين؟ ليس هذا بمنطقٍ وليس هذا بعقل، ولكن الجنة تحتاج إلى عمل، لا تحتاج إلى الأماني، أو التشهي، أو التمني، إن نجمةً يعلقها ضابطٌ من الضباط على كتفه ما نالها إلا بعد سنواتٍ من التدريب الشاق، والامتحانات الصعبة، إن شهادةً ينالها طالبٌ من الطلاب ما نالها إلا بعد سنواتٍ من الكد والجد والمذاكرة والمثابرة، إن تاجراً ما جمع حفنةً من المال إلا بعد سهرٍ طويل، وإن كثيراً من متاع أهل الدنيا أو مناصبهم أو مراتبهم أو انتصاراتهم أو الفوز الذي يعدون أنهم سجلوه ويفتخرون به، ما نالوه بنومٍ ولا بانقطاع عن الجد والكد والاجتهاد وإنما نالوه بتعب، وهو نعيمٌ زائل فان منقض مضمحل، ومع ذلك ما نالوه إلا بتعب.
فمن ذا الذي يريد أن ينال الجنة بإعراضٍ عن طاعة الله، أو يريد أن ينالها بالتمني؟ من ذا الذي يريد أن يبلغ الجنة وهو معرضٌ عن طاعة الله، وعن الصلاة مع الجماعة، وعن بر والديه، وعن صلة رحمه، وعن الإنفاق في سبيل الله، وعن كف لسانه عن الغيبة والنميمة، وعن تصفية قلبه وتنقية فؤاده من الحسد والإحن والغل والبغضاء؟ تريد جنةً بالغل والحقد! تريد جنةً بالحسد والنميمة! تريد جنةً بالغيبة والكراهية! تريد جنةً بصلاةٍ في البيت المؤذن يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح! تريد جنةً بإمساك المال، والله يقول: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]! تريد جنةً وأنت قاعدٌ وقد سبق السابقون وقد أضمأوا نهارهم وأسهروا ليلهم، تريد جنةً وأنت كسول خمول.
تسألني أم الوليد جملاً يمشي رويداً ويجي أولاً
هذا والله لا يكون أبداً.
إن الجنة تحتاج إلى مخالفة للهوى، إن من أراد الجنة، وأراد أن يختبر نفسه ويمتحن طريقته ويتأكد من سير أقدامه هل هو في طريق الجنة أم لا، فلينظر نفسه إذا اشتهت شيئاً مما حرم الله، إن قال: لا وصبر عن معصية الله، وصبر على طاعة الله، وصبر على أقدار الله، وحزم نفسه وأخذ بزمامها وعسفها وصارعها وأكرهها وروضها إذا فعل ذلك فليعلم أنه على طريق أهل الجنة.
أما من يعطي نفسه هواها فقد خاب من دساها، أما من أراد لها الفلاح فقد أفلح من زكاها، يقول صلى الله عليه وسلم: (حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره) متفق عليه.
وهذا الحديث يقول عنه النووي رحمه الله معلقاً: هذا من بديع الكلام وفصيحه وجوامعه الذي أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه: لا وصول إلى الجنة إلا بارتكاب المكاره، فالنار بالشهوات قد حفت، والجنة محفوفةٌ بالمكاره فهما محجوبتان بهما، فمن هتك الحجاب وصل إلى المحجوب، فهتك حجاب الجنة باقتحام المكاره، وهتك حجاب النار بارتكاب الشهوات، فأما المكاره فيدخل فيها الاجتهاد بالعبادة والمواظبة عليها، والصبر على المشقة فيها، وكظم الغيظ والعفو والحلم والصدقة والإحسان والصبر عن الشهوات ونحو ذلك.