المبادرة بالتوبة مسارعة في الخيرات

يظن كثير من الناس أن التوبة واجب من الواجبات الموسعة على التراخي، وليست على الفور، وهذا من الجهل، إذ أن التوبة أمر واجب، لا تسوف التوبة إلى عام هجري جديد، أو إلى حج قادم، أو إلى ما بعد الزواج، أو إلى ما بعد بناء البيت، أو إلى ما بعد كذا، فإن كثيراً من الناس لا يزالون يسوفون والموت أقرب من تسويفهم هذا، قال عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].

فتأجيل التوبة إصرار، فإن كنت من المتقين، أو من الذين يراد بهم الخير، فلا تصر على ذنب، ولا تأخر التوبة، وبادر بالرجوع والإنابة، قال صلى الله عليه وسلم: (ويل للمصرين على ما فعلوا وهم يعلمون).

يا أحبابنا! هل يؤتى الناس اليوم من جهلهم بالحلال والحرام؟! أترى كثيراً من الذين يرتكبون المعاصي، ويقترفون السيئات، ويتلبسون بالشهوات والفواحش والآثام والمنكرات، أتراهم يفعلونها جهلاً بأنها حرام؟ أو جهلاً بأنها لا تجوز؟ أو جهلاً بأنها تسخط الله؟ أو جهلاً بأنها تخالف أمر رسول الله؟!

صلى الله عليه وسلم لا.

لكنه الإصرار، فهل ترضى أن تكون مصراً على عناد أمر الله؟! هل ترضى أن تكون مصراً على عناد أمر رسول الله؟! فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم دائرة، فليحذر هؤلاء المصرون أن تقع بهم مصيبة أو تنزل بهم نازلة على إصرارهم وعنادهم.

المسوف يقول: أتوب غداً، أتوب بعد غد، قال سهل بن عبد الله: وهذه دعوى النفس، وكيف يتوب عبدٌ غداً، وغداً لا يملكه؟ كيف تقول: أتوب غداً، وأنت في الغد لا تدرى هل أنت في مغسلة الموت، أم في غرفة الإنعاش، أم في ظلمات المقابر، أم في حال أنت لا تدري بها؟ إن الإنسان لا يعطي إلا مما يملك، فإن كنت تملك الغد فأعط فيه توبة، لكنك لا تملك الغد، بل أنت لا تدري أي نَفَس تدره، وأي نفس تجذبه.

إذاً الذي جعل كثيراً من الناس يسوفون أمر التوبة هو الاستغناء، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7] لما استغنوا بالمال والمنصب والجاه أصابهم الطغيان، ولو علموا أن العافية عارية ومردها إلى المرض، وأن الصحة عارية ومردها إلى السقم، وأن العمر عارية ومرده إلى الموت، وأن الجاه والمنصب عارية ومرده إلى الزوال أو العزل أو البعد عنه، فحينئذٍ يعلم العبد ما الذي يضره وما الذي ينفعه.

إن من الناس من يعلق توبته بأمر، ودون هذا الأمر أمور، ودون كل أمر أمر، وهذا ملاحظ عند كثير من المتذبذبين الذين لا يملكون الإرادة، ولا يملكون زمام أنفسهم، والمسوف المسكين يتصور أن يكون للخائض في الدنيا فراغ، وهيهات فما يفرغ من الدنيا إلا من اطّرحها.

فما قضى أحد منها لبانته وما انتهى أرب إلا إلى أرب

قال ابن رجب رحمه الله: واعلم أن الإنسان ما دام يأمن الموت، فإنه لا يقطع أمله من الدنيا، وقد لا تسمح نفسه بالإقلاع عن لذاتها وشهواتها من المعاصي وغيرها، ويرجّه الشيطان بالتوبة في آخر عمره، فإذا تيقن الموت، وأيس من الحياة أفاق من سكرته بشهوات الدنيا، فندم حينئذٍ على تفريطه ندامة يكاد يقتل نفسه، وطلب الرجعة إلى الدنيا ليتوب وليعمل صالحاً، فلا يجاب إلى شيء من ذلك، فتجتمع عليه سكرات الموت، وحسرات الفوت، وقد حذر الله عباده من ذلك في كتابه، ليستعدوا للموت قبل نزوله، حيث قال عز وجل: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:54 - 56].

وقد سمع بعض المحتضرين من الناس وهو يعالج سكرات الموت، يلطم وجهه ويقول: يا حسرتاه على ما فرطت في جنب الله! وقال آخر عندما حضرته سكرات الموت: سخرت بي الدنيا حتى ذهبت أيامي، وقال آخر عند موته: لا تغرنكم الحياة الدنيا كما غرتني، فغاية أمنية الموتى الآن وهم في قبورهم، يتمنون حياة ساعة يستدركون فيها ما فات من توبة وعمل صالح، ونحن وإياكم يا أهل الدنيا نفرط في الحياة، فتذهب الأعمار بالغفلة، ومنا من يقطعها بالمعصية، قال بعض السلف: أصبحتم في أمنية أناس كثير، أي: أن الموتى كلهم يتمنون حياة ساعة، ليتوبوا فيها، ويجتهدوا في الطاعة، ولا سبيل إلى ذلك.

قال ابن القيم رحمه الله فيما نظم من نظمه:

شاب الصبا والتصابي بعد لم يشب وضاع وقتك بين اللهو واللعب

وشمس عمرك قد حان الغروب لها والفيء في الأفق الشرقي لم يغب

وفاز بالوصل من قد جد وانقشعت عن أفقه ظلمات الليل والسحب

كم ذا التخلف والدنيا قد ارتحلت ورسل ربك قد وافتك في الطلب

فيا أحبابنا! اسألوا أنفسكم كيف مضى وقت الصحابة، وكيف مضى وقت التابعين؟ لقد مر عليهم المغرب والعشاء، والليل والنهار، والظهر والعصر والضحى، والإصباح والمساء، لقد مر عليهم ذلك فكانوا يكابدون الأيام ويجاهدونها، كان السلف يعتبرون اليوم معركة ساخنة حامية، إذا استطاع الواحد منهم أن ينتصر في يومه ذاك، انتهى من يوم مضى وانطوى، واستعد لمعركة يوم جديد، فكم من يوم مضى صرعنا فيه بغفلة؟! وكم من يوم يمر علينا نصرع فيه بالتسويف والإعداد لما لا نسأل عنه، والتفريط فيما نحاسب عليه؟!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015