الوقت ومحافظة السلف عليه

قال ابن هبيرة صاحب الإفصاح رحمه الله:

والوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أهون ما عليك يضيع

كان عمرو بن دينار قد جزأ الليل ثلاثة أجزاء، فجزء يدرس فيه الحديث، وجزء ينام فيه، وجزء لصلاته وتهجده، والحال اليوم قد تبدلت، والأمور قد تغيرت، إن في الليل لسهراً، وإن في الليل لجهداً، وإن في الليل لعملاً، ولكن عمل على ما يضيع هذه الحسنات، وجهد فيما يفوت الصالحات، وسعي لأجل دنيا فانية، ولأجل حطام حقير، أما الآخرة فلا ينظر إليها بعين، ولا يرمى لها بسهم إلا من عباده من الأقلين، وما أقلهم:

وقد كانوا إذا عدوا قليلاً فقد صاروا أقل من القليل

كان الشافعي رحمه الله يجزئ الليل ثلاثة أجزاء: جزء يكتب فيه، وجزء يتهجد فيه، وجزء ينام فيه، أما ليل شبابنا وليلنا وليل كثير من الناس، بل وليل بعض الصالحين هدانا الله وإياهم، فسهر طويل في القيل والقال، والحال والمآل، والكلام عن أحوال أقوام منهم من مضى ومنهم من بقي، وأقوام لا نسأل عنهم يوم القيامة ألبتة، فلا نلبث إلا أن ندرك أن منتصف الليل قد أدركنا، ثم نقوم إلى بيوتنا كسالى، ونأوي إلى فرشنا ضعافاً، الواحد ينقر الوتر نقراً، هذا إن كان فيه بقية من عزم على صلاة الوتر، ثم ينام متأخراً ليدرك ركعة أو ركعتين من الفجر، وربما فاتته صلاة الفجر، بسبب ماذا؟ بفيروس الوقت وهو ضياعه، وهو سهر فيما لا ينفع، وإنها من الأمراض التي يشكو منها كثير من الناس في هذا الزمان.

إنك تلاحظ ضغطاً اجتماعياً غريباً عجيباً على الناس، إذا اعتذر أحدهم عن موعد أو مناسبة بعد العشاء، فربما قال له بعضهم: وهل أنت من العجائز؟! وهل أنت من الشيوخ والكهول حتى تنام بعد العشاء؟! بمعنى: لم لا تسهر؟ لم لا تبقى؟ لم لا تجلس؟ حتى يمضي من الليل أكثره، ثم عد إلى فراشك ضعيفاً هزيلاً كسلاناً، حتى تضيع الفجر أو تضيع تكبيرة الإحرام.

قال أبو سليمان الداراني: لو لم يبك العاقل فيما بقي من عمره إلا على تفويت ما مضى منه في غير طاعة لكان خليقاً أن يحزنه ذلك إلى الممات، فكيف بمن يستقبل ما بقي من عمره بمثل ما مضى من جهله؟! وقال ابن عبد القدوس في قصيدته الزينبية:

صرمت حبالك بعد وصلك زينب والدهر فيه تصرم وتقلب

فدع الصبا فلقد عداك زمانه وازهد فعمرك مر منه الأطيب

ذهب الشباب فما له من عودة وأتى المشيب فأين منه المهرب

ضيف ألمّ إليك لم تحفل به فترى له أسفاً ودمعاً يسكب

دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب

واخش مناقشة الحساب فإنه لا بد يحصى ما جنيت ويكتب

لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب

كانت سمات أهل العلم وأهل الآخرة، والسلف الصالح المحافظة على الوقت؛ لأن المحافظة على الأوقات من علامات ذوي الهمم القوية العالية، قال حماد بن سلمة: ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله عز وجل فيها إلا وجدناه مطيعاً، إن كان في ساعة صلاة وجدناه مصلياً، وإن لم تكن ساعة صلاة وجدناه متوضئاً تالياً، أو عائداً مريضاً، أو مشيعاً لجنازة، أو منتظراً لصلاة، قال: فكنا نرى أنه لا يحسن أن يعصي الله عز وجل، كنا نرى أنه لا يعرف كيف يذنب ويعصي، ويرتكب جريمة أو فاحشة أو منكراً أو معصية.

أما اليوم فكثير من الناس تجده وقت الصلاة نائماً، ووقت الجد والعلم لاهياً، ووقت الغنيمة غافلاً ساهراً على لهو أو فيلم أو أغنية أو ملهاة، وما أكثر ما يضيع من الخيرات والثواب والحسنات من أوقاتنا وأعمالنا! كان الحسن يقول: [ما مر يوم على ابن آدم إلا قال له: يا ابن آدم! أنا يوم جديد، وعلى ما تعمل فيّ شهيد، وإذا ذهبت عنك لم أرجع إليك، فقدم ما شئت تجده بين يديك، وأخر ما شئت فلن يعود أبداً إليك].

وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: واعلم أن الزمان أشرف من أن يضيع منه لحظة، فإن في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له بها نخلة في الجنة).

فكم نضيع -يا عباد الله- من نخلات ومن غراس في جنات النعيم؟!

ومن عجب الأيام أنك جالس على الأرض في الدنيا وأنت تسير

فسيرك يا هذا كسير سفينة بقوم جلوس والقلوب تطير

الإنسان العاقل يحرص على اغتنام عمره إلى النفس الأخير من حياته، قال عيسى بن الهذيل: يا ابن آدم! ليس لما بقي من عمرك ثمن، وهو قريب المعنى من قول سعيد بن جبير: إن بقاء المسلم كل يوم غنيمة لأداء الفريضة والصلاة، وما يرزقه الله ويفتح الله عليه من ذكره، وللنظر إلى اللحظات الأخيرة، والبقية الباقية من عمر الإمام أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري المتوفى سنة مائة واثنين وثمانين، الذي كان يعرف بأنه كبير القضاة في زمنه، قال القاضي إبراهيم بن الجراح: مرض أبو يوسف فأتيت أعوده، فوجدته مغمى عليه، فلما أفاق أبو يوسف، قال للقاضي إبراهيم: يا إبراهيم ما تقول في مسألة كذا؟ قلت: في هذه الحالة -أي: مسألة فقهية وبحث ونقاش وحوار وفائدة، وأنت في هذه الحالة من الإغماء أو في سكرات الموت- قلت: في هذه الحالة؟! قال: لا بأس بذلك، لعله ينجو به ناج.

ثم قال أبو يوسف: يا إبراهيم! أيهما أفضل في رمي الجمار -أي: في مناسك الحج- أن يرميها ماشياً أو راكباً؟ فقلت: راكباً، قال: أخطأت، قلت: ماشياً، قال: أخطأت، قلت: قل فيها يرضى الله عنك، قال: أمّا ما كان من الجمار يوقف عنده للدعاء فالأفضل أن يرميه ماشياً، وأما ما كان لا يوقف عنده فالأفضل أن يرميه راكباً، ثم قمت من عنده، فما بلغت داري، حتى سمعت الصراخ عليه، وإذا هو قد مات رحمه الله.

أما الإمام شيخ المفسرين والمؤرخين ابن جرير الطبري رحمه الله، فقد كان على فراش الموت وكان قد سمع دعاءً عن جعفر بن محمد، فاستدعى محبرة وصحيفة، فكتب الدعاء، فقيل له: يا ابن جرير! أفي هذه الحال؟! فقال: ينبغي للإنسان ألا يدع اقتباس العلم حتى الموت.

وعن نعيم بن حماد قال: قيل لـ ابن المبارك: إلى متى تطلب العلم؟ قال: حتى الممات إن شاء الله.

بقية العمر عندي ما لها ثمن وإن غداً ليس محسوباً من الزمن

يستدرك المرء فيها كل فائتة من الزمان ويمحو السوء بالحسن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015