ولا تظنوا أيها الأحبة! أن أمر السحر فقط موجود بين المسلمين، بل هو موجود بين الكفرة، بل موجود بين أقوام سالفين، وكلكم يعلم قصة موسى وفرعون، وأن فرعون جمع السحرة أجمعين لميقات يوم معلوم، ثم إن فرعون طلب من موسى معجزة فما كان منه إلا أن سلك يده في جيبه، ثم نزعها فإذا هي بيضاء من غير سوء {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الأعراف:107] {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:20] فقال فرعون: إن هذا لسحر، وقال وزراؤه وشياطينه وجلاوزته: إن هذا لمكر وهذا سحر يريد به موسى وأخوه أن يصرفا بني إسرائيل عنك يا فرعون، ويذرك وآلهتك أي: يتركك وملكك وسلطانك وقدرتك، ليصرف الناس عنك إلى غير ذلك.
فأمر السحر ليس بجديد وإنما هو قديم وكلكم يعلم أن الله عز وجل ذكر في كتابه الكريم ما كان في تلك المناظرة العملية المشهودة التي اجتمع فيها السحرة وموسى بما آتاه الله من ثبات البرهان وقوة اليقين وعزيمة الإيمان، قال: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} [يونس:80] وبين الله عز وجل أن ما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى، ثم إنهم ألقوا حبالهم وعصيهم وسحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم، فما كان من موسى عليه السلام بتثبيت الله له، وتأييد الله له إلا أن ألقى تلك العصا، فانقلبت تلك العصا إلى ثعبان ضخم كبير عظيم مهيل، ثم التف هذا الثعبان على جميع ما أتى به السحرة مجتمعين فالتهمها ثم عادت إلى سيرتها الأولى، عادت تلك العصا صغيرة بعد أن ابتلعت كل سحر أتباع وشياطين ووزراء فرعون ومن معه، ولا يعرف السحر إلا من كان من أهل الصنعة وأصحابها.
لما رأى السحرة هذه العصا الصغيرة التي رميت على هذا السحر العظيم، على تلك الحبال الكثيرة، على تلك العصي المجتمعة، فما كان من هذه العصا إلا أن تعاظمت وتحولت إلى ثعبان حقيقي، وليست كما يفعل السحرة من تخييل وتصوير ورسوم يظنها الرأي أنها حقيقة، وليست بحقيقة إنما تحولت هذه العصا بأمر الله -الذي إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون- إلى ثعبان عظيم فابتلعت والتهمت كل ذلك، فأيقن أولئك السحرة أن هذا ليس بسحر وإنما هي معجزات؛ لأنهم قد بلغوا في السحر غايته وقد بلغوا في الشعوذة قمتها، وقد بلغوا في الصنعة أعلى أقطابها، فما يظنون ولا يعلمون على وجه الأرض أن أحداً سوف يأتي بسحر أقوى من سحرهم، فعلموا أن هذه إنما هي معجزة ربانية وبرهان إيماني من الله عز وجل لإقامة الحجة على هؤلاء، فما كان من السحرة إلا أن خروا جميعاً ساجدين: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:70].
فانزعج فرعون وجن جنونه، وقد كان يجعل السحرة ردأً وحصناً ودرعاً وحزاماً وقوة يلجأ إليها لمواجهة هذا الوحي وتلك الدعوة، فقال: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [الأعراف:123] يريد حتى في قضية العقيدة، وقضية العبودية والفكر والاعتقاد ألا يمارس شيء إلا بإذنه وتدبيره وسلطانه، لا بد أن تستأذنوه قبل أن تتركوا الباطل إلى الحق، لا بد أن تستأذنوه قبل أن تدعوا الكفر وتتجهوا إلى الإيمان، لا بد أن تستأذنوا فرعون قبل أن تدعوا ضلالته وتتجهوا إلى الهدى الذي جاء به موسى وهارون.
{إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا} [الأعراف:123] فأخذ يدعو بالويل والثبور ويرعد ويبرق ويزمجر ويتوعد: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ} ثم قال: لأصبلنكم أجمعين، ولأقطعنكم، وأخذ يتوعدهم، فانظروا واعجبوا يا معاشر المؤمنين! كيف تبلغ حلاوة الإيمان مبلغاً يجعل الواحد يستحلي العذاب ويصبر على البلاء ويتحدى المواجهات، فقالوا له: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] تقتل، تصلب، تعذب، تجلد، تصادر، تفعل {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72] ما هذه الحياة الدنيا حتى تتوعدنا وتتهددنا بها في مقابل ماذا؟ في مقابل الإيمان بالله {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:73] أنت الذي أكرهتنا، وأنت الذي أوردتنا المهالك، وأنت الذي جعلتنا نصل هذه المعاطف، لكنا آمنا بالله الذي سيغفر لنا ذنوبنا وحوبنا {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:73].