وهنا مسألة في طلاق الغضبان: هل يقع طلاق الغضبان أم لا؟ طلاق الغضبان على ثلاثة أنواع: النوع الأول: أن يكون في مبادئ الغضب، أي في أول الغضب، فهذا قصده تام وتصوره تام أيضاً ويملك نفسه على جهة التمام، فيقع طلاقه بلا خلاف، وأكثر الطلاق من هذا النوع.
النوع الثاني: أن يكون في نهاية الغضب بحيث إنه كالمجنون لا يدري ما يقول، فهذا لا يقع طلاقه بالاتفاق، لأنه كالمجنون، حتى إنه يقول كلاماً عند غضبه، فتسأله: هل قلت هذه الكلمة؟ يقول: لا أذكر أني قلتها، فقد يسب ويلعن ويتكلم بكلام كثير ولا يدري ما الذي قاله إذا أفاق من صولة الغضب.
النوع الثالث: وهو الغضب المتوسط بين هذا وهذا، وهذا هو محل الاجتهاد، فذهب الجمهور إلى أن الطلاق يقع، قالوا: لأنه يدري ما يقول فوقع طلاقه، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن قيم الجوزية أن طلاق الغضبان غضباً متوسطاً لا يقع.
ما هي صورة هذا الغضب المتوسط؟ الغضب المتوسط هو الذي يكون فيه القصد ناقصاً والتصور ليس بتام، يعني أن الأمور تكاد تنعمي في نظره وأصبح لا يكاد يعقل ولكنه يعقل، إلا أنه أصبح هذا الغضب يغلي في قلبه حتى إن الغضب يصبح كالمتصرف فيه يسكته وينطقه، ولذا قال الله جل وعلا: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} [الأعراف:154]، فالغضب هو الذي سكت، فأصبح هذا الغضب كالمخلوق الآخر في بدنه ينطق على لسانه ويسكت، فإذا وصل إلى هذه الحال حتى إنه إذا قال هذه الكلمة وأطفأ ما في قلبه ندم سريعاً على كلمته التي أخرجها، فهذا هو الغضب المتوسط.
فهذا يقول الجمهور أنه يقع معه الطلاق، وشيخ الإسلام وتلميذه يقولون: إن الطلاق لا يقع، والراجح القول الثاني في هذه المسألة، ومما يدل على ذلك الحديث المتقدم الذي رواه أبو داود وغيره، وفيه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا طلاق ولا عتاق في إغلاق)، والإغلاق هو انسداد باب القصد.
قال أحمد والشافعي وأبو داود: الإغلاق هو الغضب.
وقال أبو عبيدة: الإغلاق هو الإكراه.
وكلاهما إغلاق، فالإكراه إغلاق، والغضب إغلاق، والسكر أيضاً إغلاق؛ لأن باب القصد ينغلق وينسد كما تقدم شرحه وإيضاحه.
أيضاً: مما يدل على أن طلاق الغضبان لا يقع، قول ابن عباس رضي الله عنه: الطلاق عن وطر.
رواه البخاري معلقاً، أي: عن قصد، وهذا ليس له قصد في الطلاق، وإنما قصده أن يطفئ غضبه، حتى إن بعضهم يقول: أنا لو مكنني أبنائي من ضربها لاكتفيت بضربها ولم أطلقها، وذلك أن بعضهم يحجبه أبناؤه عندما يغضب فيطلق يريد أن يطفئ هذا الغضب الذي في نفسه، وهو لا يشعر الشعور التام، ومثل هذا على الصحيح كما تقدم لا يقع معه الطلاق، وهو اختيار طائفة كثيرة من محققي العلماء.