الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد: فالنصيحة لله تبارك وتعالى -أيها الإخوة الكرام- أن تتوجهوا بقلوبكم وجوارحكم إليه سبحانه، وأن تتضرعوا إليه في الليل والنهار، وأن تخشوه حق خشيته في السر والعلن، وأن تجأروا إليه بأن يكشف عن هذه الأمة البلاء.
أما النصيحة لكتاب الله تبارك وتعالى فهي أن تؤمن بأن هذا الكتاب أعظم كتاب أنزله الله تبارك وتعالى على رسوله، وأنه كلام الله تبارك وتعالى منه بدأ وإليه يعود، وأنه ليس مخلوقاً، وأن كلام الله ليس مخلوقاً؛ لأن كل مخلوق مربوب وكل مربوب حادث وكل حادث إلى زوال وفناء، وحاشا لأسماء الله وصفاته أن تكون مخلوقة، فإن صفات الله تبارك وتعالى وأسمائه لازمتان له، فإن الله تبارك وتعالى اسمه الرزاق قبل أن يخلق الخلق، فهو موصوف بالرزاق قبل أن يخلق الخلق؛ لأن صفة الله تبارك وتعالى واسم الله تبارك وتعالى أزليان أبديان بلا أول ولا نهاية، وأسماء الله تبارك وتعالى وصفاته لازمة له، فكما استحق الله تبارك وتعالى أنه الأول والآخر، فكذلك استحقت هذه الأسماء في أوليته ولا آخر لها؛ لأنها لازمة لا تفنى، ومن قال بأن القرآن مخلوق لا بد لزاماً أن يقول: إنه يفنى، وهذا قول المعتزلة، وهي شر مقولة أحدثت في القرن الثالث الهجري في دولة العباسين، ولكن الله تبارك وتعالى قيض لها ذلك الجبل الفذ الشامخ أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ورضي عنه، فثبت هذه الأمة على عقيدة نبيها في أسماء الله وصفاته، وقال: القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال بأنه مخلوق فقد كفر، وأما السلاطين والحكام في ذلك الزمان فكانوا على عقيدة أخرى، ومنهم عالم السوء أحمد بن أبي دؤاد الذي صور لهم وزين لهم الباطل وقال: القرآن شيء والله تبارك وتعالى خالق كل شيء، ودعا أحمد للمناظرة بين يدي الحاكم وقال: يا أحمد بن حنبل! أليس الله قال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]؟ قال: بلى.
قال: أوليس القرآن شيء؟ قال أحمد: بلى.
قال: إذاً: (كل شيء هالك إلا وجهه)! قال أحمد بن حنبل: يا ابن أبي دؤاد! أوليس الله خالق كل شيء؟ قال: بلى.
قال: أوليس الله تعالى قال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25]؟ قال: بلى.
قال: أو تعتقد أن الله يدمر هذا القرآن.
فسكت ابن أبي دؤاد، ولم يحر جواباً، فكان النصر لعقيدة أهل السنة والجماعة.
ويرجع الفضل في غرس العقيدة لهذه الأمة بأسرها إلى أحمد بن حنبل رضي الله عنه، لا أقول: في القرن الثالث ولكن إلى قيام الساعة، ولذلك أشفق عليه بعض أهل زمانه من الصلحاء، وقالوا: يا أحمد! إنما هي كلمة تقولها وتنجو من السيف، فقال أحمد: أهلك ولا تهلك الأمة بأسرها، أموت أنا ولا تموت الأمة بأسرها، إنما أنا رجل وهذه أمة، فلو أني قلت بقول المعتزلة لضلت الأمة بعدي إلى قيام الساعة، وكان ذلك محل خلاف حتى عند أهل السنة والجماعة من بعده، وأيد الله تعالى الإمام أحمد لصد هذه الفتنة فوقف لها في مهدها وعلمت الأمة إلى قيام الساعة بعقيدة نبيها وأصحاب نبيها والأئمة المتبوعين وعلى رأسهم أحمد بن حنبل.
قال أحمد: انظروا إلى هذه المحابر إنها وقفت لتكتب ما أقول.
قال ابن الجوزي: وكانوا يقدرون بألفي ألف، يعني: باثنين مليون مسلم اجتمعوا ليروا نتيجة المناظرة هل يخضع الإمام أحمد لأمر السلطان وينحرف عن عقيدة نبيه أم يختار أن تهلك نفسه ولا تهلك الأمة بأسرها؟ فنصح أحمد لهذه الأمة برها وفاجرها مؤمنها وفاسقها كبيرها وصغيرها رجالها ونسائها وهو رجل واحد، لم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في وقت احتاجت فيه إليه الأمة، وهذا من النصيحة لكتاب الله، أن تؤمن أنه كلام الله منه بدأ وإليه يعود سبحانه وتعالى، وأن تؤمن أن هذا الكتاب الذي بين يديك هو الكتاب المهيمن والمسيطر والقادر والناسخ لجميع الكتب السابقة، فليس لأحد الآن أن يقول: أنا تابع لصالح أو لشعيب أو لهود أو لموسى أو لعيسى عليهم الصلاة والسلام، فإن هذا كفر؛ لأنه لما بعث النبي عليه الصلاة والسلام وجب على كل الخلق أجمعين أن يتبعوه.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام في شأن موسى: (والذي نفسي بيده لو أن موسى حي ما وسعه إلا أن يتبعني).
وقال في شأن عيسى عليه السلام بعد أن رفعه الله تعالى إليه فهو حي عند ربه حياة لا يعلمها إلا من هو، (فينزل في آخر الزمان يكسر الصليب ويقتل الخنزير) وهما شعار النصارى، فيتبرأ منهم بل إنه يقاتلهم عند باب لد عند مقتل المسيح الدجال.
فإن من تشبث الآن بموسى أو بعيسى فليعلم أنهما بريئان منه، وليعلم أنه لا د