إن الإسلام قد طلب من الناس في أول الأمر أن يبذلوا دماءهم فبذلوها، وطلب منا الآن أن نبذل دماءنا فضننا وبخلنا وجبنا.
فهذا طلحة بن عبيد الله كان يقي النبي صلى الله عليه وسلم من تلك السهام؛ لأنه يعلم أن الضحية سيكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففداه بظهره وبطنه ودماغه وكل شيء في بدنه.
وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي ضرب المثل الأعلى بعد رسول الله في هذه الأمة في كل ميادين الحياة، لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالهجرة من مكة إلى المدينة، وذهب إلى أبي بكر فقال: الصحبة الصحبةَ يا رسول الله، فأحضر بعيرين له وللنبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخذا طريقهما في صحراء مكة وتبعهما سراقة بن مالك بن جعشم وأبو بكر ينظر إليه تارة فيسبق النبي ويتأخر عنه مخافة عليه، فلما اقترب سراقة منهما بكى أبو بكر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: علام تبكي يا أبا بكر؟ قال: إن سراقة تبعنا يا رسول الله، فوالله لست على نفسي أبكي إنما أبكي عليك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اللهم أكفناه بما شئت وكيف شئت، فساخت فرس سراقة في الصخر حتى استقرت على بطنها، فأتاهما سراقة يمشي على رجليه.
وكذلك احتاج الإسلام من الصحابة رضي الله عنهم بذل المال فلم يضنوا به مع الحاجة والفقر، فهذا أبو بكر يأتي بكل ماله -لما علم أن الإسلام في حاجة إلى المال- ووضعه بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا تركت لأهل بيتك يا أبا بكر؟ قال: تركت لهم الله ورسوله.
ولذلك لا غرابة بعد ذلك أن يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لو وزن إيمان الأمة بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر).
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأتي بشطر ماله، فلما وجد أبا بكر قد أتى بجميع ماله قال: والله يا أبا بكر لا أسابقك إلى خير قط، فإني ما سابقتك إلى شيء إلا قد سبقتني إليه.
وهذا أبو طلحة الأنصاري زيد بن سهل رضي الله عنه لما نزل قول الله تبارك وتعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران:92] كان له بستان عظيم جداً بجوار المسجد النبوي في ذلك الوقت، فقال للنبي عليه الصلاة والسلام: والله -يا رسول الله- إن أحب مالي إلي بيرحاء هذا البستان، فخذه فضعه حيث أمرك الله عز وجل.
هذا رجل من الصحابة وهو نموذج فريد لبذل أحب ما يملكون من مال لله سبحانه، فمن منا يمكن أن يصنع ذلك؟
صلى الله عليه وسلم لا، لماذا؟ لفقدان الإيمان أو قلته، ولو كان عندنا من الإيمان الشيء الكثير لدفعنا إلى أن نصنع كما صنع الصحابة، وأن نعلي كلمة الله كما أعلاها الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
وهذه أم سليم الرميصاء رضي الله عنها زوجة أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه، كان الضيف ينزل بالنبي عليه الصلاة والسلام فيقول: (هل فيكم من يضيف هذا؟ فيسكت القوم أجمعون -وهذا دليل على أنه ليس في بيوتهم شيء-، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا طلحة! خذ هذا وضيفه، فلما صدر إليه الأمر ما كان منه إلا أن ينصرف بضيف رسول الله إلى بيته، فلما دخل على أم سليم، قالت: من هذا يا أبا طلحة؟ قال: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرني أن أضيفه، فقالت: نعم الضيف، ولكن ليس عندي إلا طعام الأولاد، فاجتهدت في أن ينام الأولاد، فلما أفلحت في ذلك أحضرت الطعام ووضعته بين يدي أبي طلحة، وقالت: إن هذا الطعام لا يكفي إلا لواحد فقط يا أبا طلحة، فإذا وضعته بين يدي الضيف فأطفئ السراج، واصنع بيدك وفمك ما يصنع الآكل حتى توهمه أنك تشاركه في الطعام والشراب، ففعل ذلك أبو طلحة رضي الله عنه حتى أكل الضيف جميع الطعام، فلما أصبح الصباح وغديا على رسول الله في صلاة الفجر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا أبا طلحة! لقد عجب الله من صنيعكما تلك الليلة) ما الذي دفع أم سليم إلى هذا الفعل وما الذي دفع أبا طلحة إلى هذا الفعل؟ إنه الإيمان بالله عز وجل، هذه الحلقة المفقودة عندنا الآن هي التي دفعت الصحابة رضي الله عنهم إلى نصرة هذا الدين بأموالهم وأنفسهم.
وهذا أبو هريرة رضي الله عنه الذي قال: كنت أعتمد بكبدي على الأرض من شدة الجوع، ولكنه إذا نودي للبذل والعطاء كان من أسرع الناس استجابة لشدة إيمانه بالله عز وجل.
وكما احتاج الإسلام إلى بذل النفس وبذل المال احتاج كذلك إلى أشي