كان السلف رضي الله تعالى عنهم يحرصون على تنقية العمل وتصفيته من أي شائبة شرك أو رياء، شرك أكبر، أو شرك أصغر، كما كانوا يحرصون على ضبط أعمالهم بميزان النبوة، وهذان هما الشرطان الأساسيان لقبول العمل عند الله عز وجل، إن الله تعالى لا يقبل عملاً أريد به غير وجهه تعالى، كما أنه لا يقبل عملاً ليس مستقيماً على منهاج النبوة، شرطان أساسيان: أن تخلص العمل لله عز وجل، وأن تستقيم في عملك على منهاج النبوة، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110].
فالذي يرجو لقاء الله تعالى لا بد أن يقدم بين يديه ما يبيض وجهه بين يدي الله عز وجل يوم القيامة، بأن يخلص العمل لله، وأن يستقيم على منهاج النبي عليه الصلاة والسلام، أما يعمل المرء عملاً صالحاً ولكنه ليس خالصاً، أو يعمل عملاً خالصاً وليس صالحاً، فإنه لا ينتفع به بين يدي الله عز وجل.
وتصور يا عبد الله لو أنك عقدت النية قبل رمضان على مزيد الطاعة في رمضان، والتخلي عنها بعد رمضان، أتظن أن هذا يخفى على الله تعالى قبل أن يخلق السماوات والأرض؟! هذا سوء ظن بالله عز وجل، إن الذي يعقد النية على ترك العبادة بعد رمضان، وكان حريصاً عليها في رمضان ليس هذا بالمؤمن الصالح، وما هذا بالمؤمن الراجي لرحمة ربه، إنما هذا إنسان يتلاعب بأحكام الرحمن تبارك وتعالى، والله عز وجل يعلم منه فساد نيته قبل أن يخلق السماوات والأرض، فلا بد من رد عمله؛ لأن الله تبارك وتعالى إنما يجازيه من جنس عمله، إن الذي ينوي أن يصلي الصبح لأجل الرزق، وهو مع ذلك يقضي بقية اليوم بغير صلاة، فإن الله تعالى إنما يحرمه الرزق لعلمه الأزلي السابق أن هذا العبد ما يصلي خالصاً له عز وجل، فهذا لا يخفى على الله عز وجل وهو اللطيف الخبير سبحانه وتعالى، يعلم ما تكن الصدور وما تخفي النفوس، ولذلك الله تبارك وتعالى إذا أراد به خيراً يعاقبه أولاً بأول؛ حتى يرجع إلى الله عز وجل.
وكان السلف رضي الله تبارك وتعالى عنهم يقولون لبعضهم بعد انتهاء رمضان: من المحروم في هذا الشهر؟ المحروم من حرم الخير حقاً، المحروم من حرم دوام الطاعة حقاً، ليس المحروم من منع الدينار والدرهم كما يظن غالب الناس، ولذلك صحح النبي عليه الصلاة والسلام عقيدة المسلمين، فقال: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: يا رسول الله! من لا درهم له ولا دينار، قال: لا، إنما المفلس الذي يأتي بصيام وصلاة وزكاة وحج، ولكنه يأتي وقد سب هذا، وشتم هذا، وسفك دم هذا، وانتهك عرض هذا، فيأخذ هذا من حسناته، ويأخذ ذاك من حسناته، فإذا ما فنيت حسناته، أُخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار).
هذا هو المفلس حقاً يا عباد الله، المفلس الذي يأتي يوم القيامة لا حسنة له.
قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106]، تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، أهل الطاعة، أهل الإخلاص، أهل الصدق مع الله عز وجل، وتسود وجوه الكافرين والمنافقين وأهل البدع، وأهل الأهواء، هذا يوم يقول فيه المنافقون والكافرون لأهل الإيمان: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف:50]، أي: أفيضوا علينا بأي نعمة من النعم التي أنعم الله بها عليكم، ذلك يوم التغابن.
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان:27] ولكن هذا وقت لا ينفع فيه الندم والحسرة، إنما ذلك هو يوم الحساب، ويوم العقاب، ويوم الجنة والنار، ويوم الجزاء والثواب.
فهذا اليوم بين يديك الآن قبل أن تقول يوم القيامة: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [الأعراف:53].
عد نفسك الآن في الموتى، وأن الله قد ردك إلى الدنيا فماذا أنت صانع حينئذ؟! ولذلك كان بعض السلف يدخل القبر في كل يوم ويغلق عليه الباب، ويقول: يا فلان -ينادي على نفسه- لقد أماتك الله، ثم يفتح القبر ويخرج منه ويقول: وهذا هو الله قد أحياك لتعمل، فانظر ماذا تعمل.
اعمل قبل أن يأتي يوم فتقول: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56].
هذا اليوم بين يديك، وهذه الطاعة ماثلة بين يديك، فلم لا تقوم لله تبارك وتعالى بالليل والنهار؟ ولم لا تصوم من أيام الله تبارك وتعالى بعض الأيام؟