إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد: قال الله عز وجل آمراً نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28].
فالله عز وجل يحذر النبي عليه الصلاة والسلام من صحبة من توافر فيه هذان الشرطان، وهما: أولاً: من كان من الغافلين وليس من الذاكرين، ثانياً: وهو متبع لهواه، مما نتج عنهما أن أمره كان فرطاً، أي: مفروطاً مضيعاً مسرفاً على نفسه، فإذا كان الله تعالى يحذر نبيه وينهاه عن صحبة هؤلاء فلا شك أن من دون النبي عليه الصلاة والسلام أولى بهذا التحذير، وكنا في القديم نوجه النصائح للصغار ونخاف عليهم من صحبة الأشرار، واليوم أصبحنا نخاف على الكبار والصغار، وعلى طلبة العلم، بل وعلى العلماء العاملين؛ لأن الفتنة كادت أن تعصف بالجميع؛ بسبب انتشار المعاصي والرذائل، ولم يكد يسلم منها أحد، لا ناصح ولا منصوح.
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول كما روى البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له -أي: توجع له- سائر الجسد بالحمى والسهر).
وقال عليه الصلاة والسلام: (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل).
فالمرء على منهاج صاحبه في الخلق والسلوك، بل وفي الاعتقاد كذلك، وقديماً قالوا: الطيور على أشكالها تقع، فلا تجد صحبة قط بين مؤمن موحد مستقيم وبين فاجر فاسق لئيم، إذ كيف يجتمعان وهما مختلفان من كل وجه، اللهم إلا أصل الإسلام؟ وكيف يطيق المؤمن صحبة الفاسق؟ وكيف يصبر الفاسق على صحبة المؤمن؟ فالإيمان أمر يقض مضجعه؛ لأن قومته ونومته وسلوكه وأخلاقه تخالف الهدي النبوي، والمؤمن قائم عليه بالنصيحة، والفاسق لا يحتمل أن ينصح في كل كلمة وقومة وحركة وسكنة، والنبي عليه الصلاة والسلام قد حدد في غير ما حديث آداب الصحبة، وأصولها، ومن نصاحب، ولماذا نصاحب، وفيم نصاحب، وبين آداب وأحكام كل ذلك.
ومن أهل العلم من كتب رسائل في ذلك، وهي في غاية الأهمية، ولكن قل من المسلمين من ينتبه لمثل ذلك، بل منهم من يعد أن هذه الآداب يمكن للمرء أن يدركها دون أن يتعلمها، ولا شك أن الشرع قد مدح الخلق الحسن وإن لم يكن منصوصاً عليه في الكتاب ولا في السنة؛ لأن الخلق الحسن ممدوح شرعاً وعقلاً وعرفاً، وإن لم يرد على هذا الخلق نص في كتاب الله ولا في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، إلا أن الكتاب والسنة قد نبها وحضا وحثا على حسن الخلق، وحسن الصحبة والعشرة، وجاء الكتاب والسنة باعتبار أعراف الناس، فهي معتبرة ما لم تخالف كتاب الله ولا سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
صنف الإمام الكبير أبو البركات الغزي كتاباً في حسن العشرة وآدابها، وذكر الصحبة والأخوة، وهو كتاب عظيم جداً في بابه، فقد ذكر الأصول التي ينبغي أن يتحلى بها الأخلاء والأصحاب، وذكر قول النبي عليه الصلاة والسلام: (المؤمن للمؤمن كالبنيان).
وهذا حديث عظيم جداً، ولا يشعر بعظمة النصوص إلا من عاشها، فإن المؤمن لو وقع في بلية من البلايا ونزلت به آفة من الآفات واجتمع حوله المؤمنون في بليته هذه، وأخذوا بيده وواسوه فيها وأعانوه على أن يخرج منها بسلام فإنه يشعر بأهمية الأخوة الإيمانية، ويشعر بأن المؤمن للمؤمن كالبنيان، تماماً بتمام؛ لأن البنيان لا يقوم ولا يتماسك إلا إذا رصت أحجاره واتصل ببعض، وكذلك المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً.