الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فلا تزال رحمات الله تعالى تنزل على هذه الأمة بالليل والنهار، فكلما انتهت عبادة بدأت أخرى بعدها، وكلما ذهب فرض دخل المسلم في الذي يليه، ولذلك سرعان ما انقضى رمضان، ولن ينتهي الصيام بل لا يزال الناس تهفوا قلوبهم إليه بصيام النوافل الذي هو شبيه برمضان.
إن المرء إذا صام الإثنين والخميس، أو الأيام البيض، فلا يزال المرء يشعر أنه متعلق بالله، موصول برحمة الله، وهكذا إذا انتهى رمضان دخل الناس في عبادة أخرى وهي الحج، وهكذا نفحات الله تبارك وتعالى، نفحات ربانية تنزل بالأمة بالليل والنهار، ولولا هذه النفحات ما طاقت الأمة يوماً واحداً على ظهر هذه الأرض؛ فإن الكل يعيش ويحيا برحمة الله عز وجل وفضله، ولذلك شرع الإسلام لنا بعد الفراغ من العبادات عبادات أخرى، قال الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} [البقرة:199].
فشرع لنا الاستغفار بعد طواف الإفاضة، مع أن الحج كان قبل طواف الإفاضة وهو الوقوف بعرفة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة).
ومع هذا فقد بشرنا الشرع بأن من وقف بعرفة تم حجه، وغفر ذنبه، ومع هذا أمرنا بالاستغفار.
وقال الله عز وجل بعد هذه الصلاة التي تصلونها: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10].
فلست حراً في أن تنطلق من هذا الباب لتفعل ما يحلو لك، بل إذا خرجت من هذا المسجد فاعلم أنك في عبادة أخرى وهي ذكر الله تعالى.
إن الإسلام لم يدع لحظة في حياة المسلم إلا وحكمها وقضى عليها، إما بصلاة أو صيام أو زكاة، أو حج أو ذكر أو استغفار، أو أمر بالمعروف، أو نهي عن المنكر، ما ترك الإسلام لك حرية قط أن تفعل ما تشاء، إلا ما كان طاعة لله عز وجل.
النبي عليه الصلاة والسلام شرع لنا بعد الفراغ من الصلاة أن نقول: (أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)، فأنت في ذكر وعبادة في قومتك ونومتك ومماتك، كما قال الخليل إبراهيم عليه السلام: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] ليس له منها شيء، وإنما كلها لله عز وجل حتى الممات لله عز وجل.
ولذلك أمر الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام أن يكون كأبيه إبراهيم فقال له: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99].
أنت يا محمد مطلوب منك العبادة في كل وقت وحين حتى تلقى الله عز وجل، حتى آخر نفس في حياتك، وهذا الذي كان منه عليه الصلاة والسلام.
أما تذكرون أن النبي عليه الصلاة والسلام خرج بعد أن استخلف أبا بكر يجر إزاره حتى وقف عن شمال أبي بكر فائتم به الصديق، وائتم المسلمون بـ الصديق، خلافاً لما يزعمه الصوفية الذين فقدوا عقولهم، وفقدوا ديانتهم: اليقين في الآية درجة ومنزلة إيمانية إذا بلغها العبد سقطت عند التكاليف الشرعية، فلم لم تسقط عن النبي عليه الصلاة والسلام؟ هل نقول: إنه لم يبلغ هذه المرتبة التي يزعمها مخرفو الصوفية؟! اتهام لجناب النبي عليه الصلاة والسلام، بل اتهام لجميع الأنبياء والمرسلين، وقول بالباطل في كتاب الله عز وجل.
وقال العبد الصالح: {?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم:31].
مطلوب مني العبادة ما دمت حياً، أي: طوال حياتي، (وأوصاني) أي: وأمرني: (بالصلاة والزكاة ما دمت حياً) وغير ذلك من سير الأنبياء والصالحين فيها أنهم كانوا يعبدون الله في كل وقت وحين، حتى لقوا ربهم تبارك وتعالى.
وهكذا ينبغي إذا كان رمضان قد انقضى ألا تنقطع صلتك بالله عز وجل، وألا تقطع حبل الطاعة والاعتصام بالله تعالى، لا ينقطع منك هذا، فإذا انقطع فقد انقطعت صلتك بالله، وأنت لا تستغني عن الله طرفة عين، أو أقل من ذلك، والله تعالى غني عن عباده وعن عبادتهم، فلا تنفعه طاعتهم، ولا تضره معصيتهم إنما ذلك لك أو عليك، وليختر العاقل لنفسه ما يبيض وجهه أو يسوده يوم القيامة.