قال: (فلما شرح الله صدري للإسلام أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! ابسط يمينك فلأبايعك).
نظام البيعة على الإسلام، أو البيعة للنصح لكل مسلم وغير ذلك مما أخذ به النبي صلى الله عليه وسلم البيعة على أصحابه.
طريق ذلك: أن الواحد منهم كان يأتي إليه صلى الله عليه وسلم ويبايعه يداً بيد، وكفاً بكف، ويذكر ما يبايع عليه، فقال: (يا رسول الله! ابسط يمينك فلأبايعك، فلما بسط النبي عليه الصلاة والسلام يمينه قبض عمرو بن العاص يمينه ولم يضعها في يمينه عليه الصلاة والسلام قال: ما لك يا عمرو! قال: يا رسول الله! أردت أن أشترط - إذا دخلت الإسلام فلي شرط - قال: تشترط بماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي).
انظروا إلى ذكاء هذا العاقل، وإلى فطنتنه، يريد أن يطمئن على نفسه قبل أن يدخل الإسلام، هل الإسلام يغفر له ما كان منه من بغض النبي عليه الصلاة والسلام وآله وأصحابه أم لا؟ أما إذا كان لا يغفر ذلك له فما قيمة أن يسلم حينئذ، ولذلك بشره النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (يا عمرو! أما علمت) أي: من أصحابي ومن عموم الرسالة، ومن رحمة الله تعالى، ومن أجواء المسلمين في المدينة أو في مكة (أن الله يغفر لمن أسلم، أما علمت يا عمرو! أن الإسلام يهدم ما كان قبله).
ومعنى: (يهدم) يغفر ويمحو ويزيل كل المعاصي والذنوب السابقة على حياة المرء قبل دخول الإسلام، إذا كنت يا عمرو تعتقد أن الإسلام يجب الكفر ويبطل الكفر، فمن باب أولى أن يهدم ما دون ذلك، ولذلك قال له: (أما علمت) -أي: بعد أن استفاض ذلك في الناس- أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ أما علمت أن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ أما علمت أن الحج يهدم ما كان قبله؟) فحينئذ قال عمرو بن العاص: فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أحب الناس إلي، وأجلهم في عيني، وما كنت أطيق أن أنظر إليه إجلالاً ومهابة وتعظيماً، ولو أني سئلت أن أصفه ما أطقت ذلك؛ لأني ما كنت أقدر أن أملأ عيني منه عليه الصلاة والسلام.
أما علمت أن الإسلام الذي هو الإذعان والخضوع والذل والانكسار بين يدي العزيز الجبار يهدم ما كان قبله؟ أما علمت أن المرء إذا انقاد لله في أمره ونهيه، إذا عمل بالأمر واجتنب النهي أن ذلك يهدم ما كان قبله؟ أما علمت أن الإسلام هو الصلاة والصيام والزكاة والحج، والشهادة أولاً؟ أما علمت أن الإسلام هو أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله، واليوم الآخر، والبعث والحشر والنشر وغير ذلك من سائر أركان وفروع الإيمان بالله؟ أما علمت أن الإسلام هو هذا يا عمرو بن العاص، وأن من التزم به دخل الجنة؛ لأنه يغفر له ما قد كان منه آنفاً؟