الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمن أسباب الهلاك: البخس والتطفيف في الكيل والميزان، ومنع الزكاة، ونقض العهد مع الله ورسوله، والحكم بغير ما أنزل الله، والتحاكم إلى غير شريعة الله من أعظم أسباب الهلاك.
أخرج ابن ماجه والحاكم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر المهاجرين! خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم قط إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن قد مضت في أسلافهم الذين مضوا، وما نقصوا الكيل والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، وما نقض قوم العهد والميثاق إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم).
هذا حديث عظيم يشرح واقع الأمة اليوم.
قال: (ما ظهرت الفاحشة في قوم قط إلا فشا فيهم الطاعون) أمراض نسمع عنها ما سمع عنها في أسلافنا، هذا مرض الزهري والسيلان ما كنا نسمع عنه في بلاد الإسلام حتى جاءنا من بلاد الغرب، ولذلك كان أجدادنا يسمون هذه الأمراض أمراض الفرنجة، المرض الإفرنجي الذي أتانا مستورداً من وقوع ونزو الرجال على النساء في بلاد الغرب، حتى اقترفت هذه الأمة ما وقعت فيها الأمم الكافرة، فصارت الواحدة تختار من تحب وتعشق من تحب وتزني بمن تحب.
ومن حديث ابن مسعود عند الطبراني وغيره أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما ظهر الزنا والربا في قوم قط إلا عمهم الله بعذاب).
(إلا عمهم) أي: شملهم بعذابه ونقمته.
هذا الزنا صار إلفاً مألوفاً في المجتمع المسلم، وهذا الربا صار مقنناً بقوانين، وله عمائم تارة تبدو حمراء وتارة تبدو زرقاء وتارة خضراء تقننه وتشرعه، وتلوي ألسنتها بالكتاب لي البقر الطعام بألسنتها، فهل تستكثرون ما نزل بالأمة مع هذه الأمراض والبلايا؟ والذي نفسي بيده! إن ما ينزل بالأمة بالنسبة إلى معاصيها لقليل، ولا يكشف الله تعالى الضر إلا إذا رجع كل فرد من أفراد الأمة إلى ربه، وعمل بطاعة الله تعالى، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وما نقص قوم المكيال والميزان) لماذا ينقص الناس المكيال، ويقعون في الويل وهو واد في جهنم تستعيذ منه جهنم إلى ربها في اليوم سبعين مرة.
{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:1 - 3] (يخسرون) يمنعون حقوق الناس ويأكلونها بغير حق، لماذا؟ ويل لهم ثم ويل لهم، ومع هذا لا بد من قيام السؤال ولا بد من الجواب، لماذا أمنع حق الغير في الميزان والكيل؟ لأتكسب وأزداد ويعظم مالي ويكثر، ومع هذا يعاقبك الله تعالى من جنس قصدك، فيقول: (وما منع قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين) بالجدب والقحط والفقر والغلاء، عقوبات متتابعة متتالية ومع هذا أنت تستكثر، فربما استكثرت حتى ملأت البيت من الأرض إلى السماء فأتى عليه ماء فذهب، نار فذهب، أنت بين يدي الله عز وجل والرزق في السماء لا في الأرض، قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] ولم يقل: ورزقكم في السماء، وإنما قدم شبه الجملة من الجار والمجرور ليدل على الحصر، وأن الرزق في السماء لا في الأرض، ولو شاء الله تعالى أن يفتح عليك باباً لفتحه، ولو شاء أن يمنع عنك لمنع، ولا يدل فتحه على المحبة، ولا يدل منعه على السخط، بل يبتلي الله تعالى عبده بالنعم لينتقم منه، ويبتلي عبده الآخر بالفقر دليل على الرضا، لعلمه السابق أنه لو أغناه لطغى وبغى، فالفقر أحسن إليه.
ومَن أتباع الرسل؟ أتباع الرسل الفقراء والصعاليك الذين لا مال لهم، ولذلك قال الله تعالى: {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28] إياك يا محمد! أن تنصرف عن هؤلاء، وعاتبه الله عز وجل أشد العتاب لما أعرض عن عمرو بن أم مكتوم ليتكلم مع أشراف قريش، هؤلاء لا ينفعون، وليسوا أتباعاً للرسل، ولا يرجى منهم خير، ولذلك الخير كل الخير في الفقراء والضعفاء والمساكين.
انظر إلى حال هذا الحي الشعبي، وإلى حال حي من الأحياء التي يقال عنها: راقية، أنا على يقين أنك ستجد المساجد في هذا اليوم قد امتلأت، لكن شتان والله بين هذا المسجد وبين مسجد في حي من الأحياء الراقية، أي: في مستوى الإيمان ورسوخه وثباته والمحافظة على الصلوات الخمس، شتان وهيهات هيهات أن يستوي الغني مع الفق