بعض الناس يتصور أن الهلاك لهذه الأمة إنما هو في إبادتها واستئصال شأفتها عن بكرة أبيها، وهذا لا يكون أبداً في هذه الأمة، نعم.
كان في أمم سابقة، لكن الله تعالى تفضلاً منه ورحمة وعد هذه الأمة أنها لا تباد ألبتة، بل: (لا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، حتى يأتي أمر الله -أي: حتى تقوم الساعة- وهم على ذلك)، أي: وهم على الحق مظهرين له ظاهرين به، فهذه الأمة لا يمكن أن تبيد بأسرها، ولا أن تهلك كلها رحمة من الله عز وجل.
{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25] بل تصيب العامة، ويبعث كل على نيته، ودليل ذلك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم: في غزوة أحد لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم الجند وصف الصفوف وأرسل قطعة من الجيش إلى أعلى جبل الرماة، ثم قال لهم: (على مصافكم، احموا ظهورنا، فإذا رأيتمونا قد انتصرنا فلا تشركونا -أي: في جمع الغنائم-، وإذا رأيتمونا قد قتلنا فلا تنصرونا).
وصية خالدة، ولكنهم تنكبوا هذا بعد أن أمَّر عليهم عبد الله بن جبير وأرسلهم إلى مهمتهم، فلما رأوا الحرب قد وضعت أوزارها وولى المشركون الدبر، تصوروا أن هذا آخر المطاف، فنزل جلهم لجمع الغنائم، فلما رأى خالداً ومن معه قلة الجند على جبل الرماة استداروا من الخلف فصعدوا الجبل، وأتوا على المسلمين ضرباً وتنكيلاً ورمياً بالسهام والنبال، حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة، بل وأصاب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك جراح، فشج وجهه وكسرت رباعيته، ثم قالوا: كيف حصل هذا؟ بعد أن انتصر المسلمون أولاً ما الذي دهانا؟ {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] بسبب مخالفتكم اليسيرة للنبي عليه الصلاة والسلام كان لزاماً أن تجرى فيكم سنة الله تبارك وتعالى، وهي التأديب والطرد والقتل والتشريد والسجن والحبس وغير ذلك من سائر العقوبات حتى ترجعوا وتراجعوا دينكم، وترجعوا إلى ربكم، سنة الله تعالى ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً، ولذلك قال الله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل:61] لا يترك شيئاً يدب على وجه الأرض، لو أراد الله تعالى أن يعاملنا بعدله، ولكن الله تعالى المتفضل الرحيم الكريم التواب الغفور دائماً يعامل هذه الأمة بفضله، ويمهل للظالم، ويعطي له الفرصة مرة ومرتين وثلاثاً ومائة ليثوب ويتوب ويرجع إلى ربه، فإذا أصر فالشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من سعد في بطن أمه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، وكما قال سائر السلف من الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
أخرج البخاري من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها قالت: (دخل النبي عليه الصلاة والسلام ذات يوم علي فزعاً مذعوراً وهو يقول: الله أكبر، لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بالإبهام والتي تليها -أي: السبابة- قالت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم.
إذا كثر الخبث).
وفي الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال: (أترون ما أرى؟ قالوا: لا يا رسول الله، وما ترى؟ قال: والذي نفسي بيده! إني لأرى الفتن تقع بين بيوتكم كمواقع المطر من السماء) انظروا إلى حجم الفتنة التي تقع بالأمة، والأمة الآن تحيا هذا الحديث حياة ملموسة محسوسة، وكأن النبي عليه الصلاة والسلام بين ظهرانينا الآن، وذلك مصداق ما أخرجه مسلم وأحمد من حديث ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم - أي: تجتمع عليكم الأمم - كما تجتمع الأكلة إلى قصعتها.
قالوا: أو من قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: لا، أنتم يومئذ كثير) مليار وثلث المليار لا يقوون على مجابهة ثمانية مليون يهودي في العالم كله، لو أن كل مسلم بصق فقط في أرض فلسطين لأغرق اليهود، فما بال اليهود مع قلتهم يسوسون العالم أجمع حتى ساسوا بلد الكفر وأعظم طاغية على وجه الأرض أمريكا، كيف ذلك؟ {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30].
إي والله! بما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير.
اليهود أنجس خلق الله، وأذل خلق الله، أبناء القردة والخنازير أذاقوا المسلمين في هذه الأيام الذل والهوان، وليس ذلك بقوة اليهود، فإنهم أضعف وأحقر من ذلك، ولكن بمعصيتكم أنتم، بمعصية هذه الأمة وركوبها الخطر وتنكبها عن صراط ربها وسنة نبيها، فأراد الله تعالى أن يلقنها درساً في حياتها لا تنساه، فسلط الله عليها أهون الخلق عليه، اليهود ومن خلفهم النصارى