واعلم أن السخاء والبخل درجات، فأرفع درجات السخاء: البذل والجود والإيثار، فالسخاء هو أن تؤثر إخوانك بما في يدك، قال الله تبارك وتعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9].
والآية هذه نزلت في أبي طلحة الأنصاري وامرأته العظيمة أم سليم رضي الله عنهما، فقد نومت أولادها رغماً عنهم، وقدمت الطعام الذي هو حظها وحظ زوجها وأولادها الصغار لضيف النبي عليه الصلاة والسلام المتعب الذي أتى من سفر طويل، وأمرت زوجها أن يطفئ السراج ويصدر أصواتاً بفمه ويده ليوهم ضيفه أنه يأكل معه، حتى يأكل الضيف جميع الطعام ويشبع، ثم لما ذهب أبو طلحة إلى صلاة الفجر قال له النبي عليه الصلاة والسلام: (لقد عجب الله من صنيعكما تلك الليلة).
فهذا هو الصنيع السخي الكريم الجواد المؤثر، وأي امرأة تفعل مثل ما فعلت أم سليم الأنصارية رضي الله عنها؟ فالأخلاق عطايا ومنح يضعها الله عز وجل حيث شاء في خلقه.
وأشد درجات البخل: أن يبخل الإنسان على نفسه مع الحاجة، فكم من بخيل يمسك المال ويمرض ولا يتداوى، ويشتهي الشهوة فيمنعه منها البخل وليس الفقر، وهذا شر المال، فصاحبه يبخل به على نفسه وعلى ولده.
وليس بعد الإيثار درجة في السخاء، ففي معركة اليرموك استشهد عشرة من الرجال، سهيل بن عمرو والحارث بن هشام وجماعة من بني المغيرة، فأتوا لهم بماء فماتوا ولم يذوقوه، وكانوا إذا أتوا بالماء إلى أحدهم نظر إلى صاحبه فوجده ينظر إليه، فيأمر من بيده الماء أن يدفع الماء إلى صاحبه، فلما ذهب إلى آخرهم وجد الأول قد مات، فأتى الثاني فوجده قد مات أيضاً، وماتوا جميعاً، وهم يؤثرون بعضهم على بعض، فمر عليهم خالد بن الوليد فقال: بنفسي أنتم.
وأهدي إلى رجل من الصحابة رضي الله عنه رأس شاة فقال: إن أخي أحوج إليه مني، فبعث به إلى رجل، فبعث به ذلك الرجل إلى آخر حتى تداولته في المدينة سبعة أبيات حتى رجع إلى الأول.
هذا هو الإيثار والكرم والجود والأخلاق.
وخرج عبد الله بن جعفر إلى ضيعة له فنزل على نخيل قوم وفيها غلام أسود يعمل فيها، فأتي للغلام بقوته، فدخل كلب الحائط ودنا من الغلام، فرمى إليه قرصاً فأكله، ثم رمى إليه قرصاً آخر فأكله، ثم رمى إليه قرصاً فأكله، وعبد الله بن جعفر ينظر إلى ذلك العامل الأسود، فقال: يا غلام! كم قوتك كل يوم؟ قال: ما رأيت، قال: ما الذي حملك على أن تطعمها للكلب؟ قال: إنه كلب غريب عن المكان وقد دخل البستان، فألقيت إليه قرصاً رجاء أن يشبع فلم يشبع حتى أكل طعامي، فاشترى عبد الله بن جعفر ذلك الحائط واشترى الغلام وأعتقه لله عز وجل.
فصنائع المعروف تقي مصارع السوء.
واجتمع عشرة من الفقراء في موضع لهم وبين أيديهم ثلاثة أرغفة لا تكفيهم، فكسروها وأطفئوا السراج وجلسوا للأكل -والثلاثة الأرغفة لا تكفي لأحدهم- فلما رفع الطعام إذا هو بحاله، لم يأكل أحد منه شيئاً إيثاراً لأصحابه.