وينبغي أن يعلم أن الإسلام لا يعتمد على العقوبة في إنشاء الحياة النظيفة، بل إنما يعتمد على الوازع الديني، ولذلك الإسلام قبل أن يحرم الزنا إنما بغضه إلى قلوب الخلق، وقبل أن يحرم شرب الخمر إنما بغضه إلى قلوب الخلق، وهكذا في كل حد من حدود الله عز وجل، إنما يخاطب الله عز وجل عباده بأن ينفرهم ويزجرهم ويبين لهم المغرم الذي لو أقدموا على هذا الذنب لتحملوا نتيجته نتيجة سيئة.
ولذلك أنت تجد أن العاصي لا يشعر بالأمان فيما بينه وبين نفسه، ولو أنه قام بطاعة الله عز وجل لاطمأن قلبه بذلك، وهذا مصداق قول الله عز وجل: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
فالذاكر لله تبارك وتعالى بالقول والعمل لا بد أنه مطمئن القلب، وأما العاصي العامل بخلاف الذكر الذي ورد في الكتاب والسنة فلا بد وأن يشعر بالقلق، وعدم الطمأنينة، فلا بد من بيان أن الله تبارك وتعالى إنما يخاطب في عباده الوازع الديني، وأنه يربي في قلوبهم ونفوسهم الوازع الديني قبل أن يعتمد على العقوبة، وإنما العقوبة هي الحد، وهي الغرض وهي المنتهى في غير تشريع المولى عز وجل.
ولذلك أنت لو قلت لواحد: أعطني ألف جنيه زكاة مالك يدفعها لك طيبة بها نفسه، ولو قلت له: ادفع عشرة جنيهات فقط ضرائب لا يدفعها؛ لماذا؟ لأن عنده في الأول الوازع الديني، وليس عنده وازع في الثاني إلا أن يقهر بالسيف والسلطان، فحينئذ يدفع وإن باع أولاده وامرأته في سوق النخاسة.
أما الإسلام فلم يكن كذلك، وإنما خاطب الناس، ولذلك تجد أن الشخص يأتي بزكاة ماله ويدفعها مختاراً راغباً في أن يتخلص من هذا المال؛ لأنه يعلم أنه لا حق له فيه.
وهل سمعتم أن أحداً حمل ماله وذهب إلى مصلحة الضرائب ليدفعه؟ أبداً.
لماذا؟ لأنه يعلم أن هذا ظلم، وأنه ليس من دين الله عز وجل، وأنه لا يؤجر عليه لا في الدنيا ولا في الآخرة.
ولذلك حرص الإسلام ابتداءً على أن يربي الوازع الديني في قلوب العباد، ولذلك أنت بإمكانك أن تقتل، وأن تسرق، وأن تزني، وأن تسب وأن تشتم وغير ذلك، فما الذي يحجبك وما الذي يمنعك؟ إنما هو خوفك من الله عز وجل، فلو أنك تمكنت من السرقة وأنت تعلم أنه لا يراك أحد من الخلق فأنت تقول فيما بينك وبين نفسك: إنما يراني رب الخلق.
فقولك: (يراني رب الخلق)، هذا هو الوازع الديني الذي رباه الله تعالى في قلوب عباده الصالحين.
فإن الإسلام لا يعتمد على العقوبة في إنشاء الحياة النظيفة بين الناس، ولا يتخذها الوسيلة الوحيدة لذلك، وإنما يعمل على الوقاية من الجريمة، ومحاربتها بالضمير الوازع، والنفس المهذبة والسلوك المستقيم، وتوفير أسباب الحياة النظيفة لكل الناس، فمن ارتضى هذه الأسباب واتخذها منهج حياته ارتقى وعز بالإسلام، وسعد بالمجتمع، وسعد به مجتمعه.
ومن هجر هذه الأسباب، ونفر منها، وسعى في الأرض فساداً دون رادع من خلق، أو وزاع من ضمير، فهو كمن يتمرغ في الوحل مختاراً، وحق للإسلام أن ينزل به عقابه؛ ليحمي الناس من شروره، ويوفر للمجتمع أمنه واستقراره.
فالإسلام لم يرصد عقوبة دنيوية لكل انحراف أو معصية، بل إن هناك كثيراً من الانحرافات والمحرمات اكتفى الإسلام فيها بأن أنذر مرتكبيها بغضب الله وعقابه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: المنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، والمسبل إزاره).
فليس هناك عقاب عملي في كتاب الله أو في سنة رسول الله يؤدب هؤلاء.
فالمنان يعطيك المال، ويمن عليك، ويقول: أنا أعطيتك في يوم كذا كذا وكذا، فهل في الإسلام عقوبة رادعة هل يضرب بالعصا على أم رأسه حتى لا يمن بعد ذلك؟!
صلى الله عليه وسلم لا، وإنما ذلك راجع إلى الوازع الديني، وخوف هذا المنان من الله عز وجل؛ لأنه لا يكلمه، ولا ينظر إليه يوم القيامة، ولا يزكيه، وله عذاب أليم في الآخرة.
وكذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام لما ذهب إلى المقابر: (إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة).
والنميمة كذلك ليس لها جزاء في الدنيا، فما الذي يمنعك أن تنم إذا لم يكن هناك عقاب، وليس من حق واحد وإن كان والياً أو حاكماً أن يضربك، وأن يؤدبك على هذه النميمة؟ ما الذي يمنعك من هذا؟ إن الذي يمنعك هو: خوفك من الله عز وجل الذي يسميه أهل العلم: الوازع الديني.
فهناك عقوبات كثيرة جداً اعتمدت على الوازع الديني، وتصفية هذه القلوب المؤمنة الطاهرة، وإقبالها على الله عز وجل.
والعقوبات في دين الله عز وجل كثيرة لا تعتمد على الحدود فقط، وإنما اعتمدت على أشياء كثيرة فمنها: الحدود، ومنها: القصاص، ومنها: التعزير والغرامات وغير ذلك.