أما بكاء الصحابة فحدث عنه ولا حرج، فـ الصديق من صفاته أنه كان لا يملك دمعه، فقد كان أسيفاً، تقول أمنا عائشة رضي الله عنها حينما قال صلى الله عليه وسلم: (مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت: يا رسول الله! مر عمر؛ فإن أبا بكر رجل أسيف لا يملك دمعه، إذا قرأ القرآن بكى).
وقد بكى أبو بكر عندما أدركهم سراقة بن مالك في طريق الهجرة خوفاً على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر يلتفت، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يلتفت.
وبمناسبة الهجرة أقول: لا تسمعوا لهؤلاء الذين لا يحققون للناس ما ينقلون، ففي برنامج إذاعي أو تلفزيوني -كما أخبرني أحد الناس أن المتحدث أستاذ في الجامعة، لا يليق به أن ينقل دون أن يحقق- يقول المتحدث: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم الغار حمله الصديق، ثم مزق أبو بكر ثوبه، وسد به الفتحات التي في الغار إلا موضعاً واحداً خرج منه ثعبان ولدغ أبا بكر والنبي صلى الله عليه وسلم نائم على حجره، وأبو بكر يكتم البكاء، فنزلت دموعه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فقال: ما يبكيك يا أبا بكر؟! قال: لدغني الثعبان يا رسول الله! فسأل النبي صلى الله عليه وسلم الثعبان: لم لدغت الصديق يا ثعبان؟! قال: حبك يا عدنان! عليه الصلاة والسلام! هل هذا الكلام يقال في إذاعة أو في قناة، ويعرض على الناس في المحافل العامة؟ وفي الهجرة: العنكبوت والحمامة، وربنا يقول: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة:40]، والعناكب جنود مرئية، لكننا ما زلنا نعرض الهجرة على الناس بهذا السياق الذي لا يرضي الله عز وجل، فنحن بحاجة إلى تحقيق تاريخي.
وأحدهم سمعته منذ فترة يقول: قال موسى لربه: يا رب! دعني أرزق بعض خلقك، فقال: يا موسى خذ حجراً واكسره، فكسر الحجر فخرج من الحجر حجر، ثم كسر الثاني فخرج منه حجر، ثم كسر الثالث فخرج منه حجر، إلى أن وصل إلى السابع فوجد فيه دودة تقول: سبحان من رزقني! ما هذا الكلام؟! وهل هذا يعرض على الناس إلى الآن؟ هؤلاء ليس لهم عقول، كليم الله يقول: يا رب! دعني أرزق بعض خلقك، هل كليم الله لا يعلم أن الله هو الرزاق؟! هذا كلام -يا إخواني- لا ينبغي أن يقال منا إلا بعد التحقيق الحديثي، فقد يكون ضعف في الإسناد أو في المتن.
أيضاً: قصة عابد الحرمين ابن المبارك حينما قال لشيخه الفضيل بن عياض: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب هل من الأدب أن يقول الطالب لشيخه: أنت تلعب بالعبادة؟! وهل هذا من أدب السلف؟! لا يمكن أن نقبل هذا.
أيضاً ما ذكره الذهبي في الكبائر أن رجلاً دفن أخته، فوقعت حافظة نقوده في قبرها، فلما وارى التراب على القبر بحث عن المحفظة فلم يجدها، فرجع إلى القبر وفتحه يبحث عن محفظته، فهل في السلف من يرجع إلى القبر ويفتحه حباً في المال؟! أليس منكم رجل رشيد؟! هل هذا كلام يقال على المنابر للناس؟ هذا كلام لا يقبل يا إخواني! أيضاً: الرجل الذي لم يصل العشاء في جماعة، فلما فاتته الجماعة عاد إلى بيته وصلى سبعاً وعشرين صلاة، فهذا كلام باطل، لأنه لا صلاة في اليوم مرتين، وما كان السلف يجهلون أنه لا يجوز أن تعاد الصلاة أكثر من مرة، لا يجوز أن تعاد الصلاة إلا لسبب شرعي؛ كبطلان أو خطأ، كأن صلى متلبساً بنجاسة، أو صلى إلى غير القبلة؛ فيجوز أن يعيد طالما أنه في الوقت، أما إذا صلى صلاة صحيحة ثم يعيد الصلاة سبعاً وعشرين مرة، فهذا كلام لا يقبل بحال؛ لأنه يعارض الصحيح.
أيضاً: لما أمر الله إبراهيم أن يذبح إسماعيل أتى بالسكين، ووضعها على رقبة إسماعيل، فانثنت السكين ولم تقطع، فقال إبراهيم: يا رب! إن السكين لم تتحرك ولم تؤد دورها، قال: يا إبراهيم! إن الذي نزع الرحمة من قلبك نزع الحدة من السكين! هل نزعت الرحمة من قلب إبراهيم؟! لا إله إلا الله! هذا الكلام -والله- يقال وسط عشرة آلاف مصل، أن الله سبحانه وتعالى نزع الرحمة من قلب إبراهيم، والجميع يجلس ويقول: ما أجمل هذه القصة! والناس تحب القصص، ويستضيفون من يجمع يميناً ويساراً، ويتخبط ويخبط، ويعرض هذه البضاعة الفاسدة على الناس دون تحقيق.
فيا عباد الله! لا بد أن نحقق قبل أن ننقل، ولذا فأول حديث وقع عند البخاري من الثلاثيات في كتاب العلم: حدثنا مكي بن إبراهيم قال: حدثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال علي ما لم أقل؛ فليتبوأ مقعده من النار)، عليه الصلاة والسلام.
وهو أول الثلاثيات عند البخاري رحمه الله تعالى.
إذاً: بكاء الصديق، وبكاء عمر، وب