أيها الإخوة الكرام! وبالتتبع لبعض مواقف بكاء النبي صلى الله عليه وسلم، وجدنا أنه بكى في مواضع منها: أولاً: بكاؤه في يوم بدر عليه الصلاة والسلام؛ لما عاتبه الله في أسرى بدر: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال:67]، لما جاءه عمر وجده يبكي هو وأبو بكر تحت الشجرة، فقال: يا رسول الله! لم تبكيان؟ فإن وجدت ما يبكي بكيت، وإلا تباكيت.
وهذا يسمى بكاء المجاملة.
ثانياً: بكاؤه لما أوحى الله إليه باستشهاد شهداء مؤتة الثلاثة: زيد بن حارثة وجعفر الطيار بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة.
ثالثاً: بكاؤه صلى الله عليه وسلم عند وفاة ابنه إبراهيم، وقال: (إن العين لتدمع).
رابعاً: بكاؤه صلى الله عليه وسلم عند سماع القرآن في أكثر من حديث: الحديث الأول وهو حديث ابن مسعود، والحديث الثاني: لما أنزل الله عليه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190]، والسيوطي رحمه الله في كتابه (الإتقان) يضرب بها مثلاً فيما نزل من القرآن ليلاً.
تقول أمنا عائشة رضي الله عنها: (استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: دعيني أصلي لربي، فبكى حتى بلَّ الأرض من دموعه، ودخل عليه بلال فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك يا رسول الله؟! قال: كيف لا أبكي يا بلال وقد أنزل الله علي الليلة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190])، أي: لأصحاب العقول.
وتطالعنا جريدة الأهرام القاهرية بمقال في (5/ 3/2004) عن الصورة التي أذهلت العالم، وهي أن وكالة (ناسا) الفضائية الأمريكية لما أطلقت مكوك الفضاء قام بتصوير الكرة الأرضية من أعلى، فلما صور الكرة الأرضية وجدها معتمة -مظلمة- إلا مكة والمدينة، لكنهم إلى الآن يكابرون عن قبول الحق، وعن الإيمان والإسلام، ولا يؤمنون وقد تبين لهم الحق، وربنا يقول: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]، لكن الكاتبة قالت في مقالتها: والمسجد الأقصى في فلسطين لم يكن على منوال المسجد الحرام والمسجد النبوي، وترجع السبب إلى أن إسرائيل أظلمت المسجد الأقصى باحتلالها له، لكني أقول: المسجد الحرام حرام، والمسجد النبوي حرام، والمسجد الأقصى ليس بمنطقة حرام؛ وهذا خطأ شائع بيننا أن نقول عن المسجد الأقصى: ثالث الحرمين، وهذا خطأ فادح، إنما الحرمان هما المسجد الحرام والمسجد النبوي، أما المسجد الأقصى فليس بحرام، بل إنه مبارك تشدُّ إليه الرحال، لكن لا يأخذ حكم المسجد الحرام والمسجد النبوي من أحكام الحرمة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أمثال ذلك: لو أنك وجدت لقطة في المسجد الحرام بمكة لا تأخذها، أما في المسجد الأقصى فإنك تأخذها.
لو أنك نفرت طيراً في الحرم المكي والمدني فإنه يحرم عليك ذلك، أما لو نفرت طيراً في فلسطين لا يحرم عليك.
فنقول: المسجد الأقصى من المساجد المباركة التي تشد إليها الرحال، أما المسجد الحرام والمسجد النبوي فإنهما حرمان، ولذلك فإن النور يسطع منهما على الأرض، هذا هو السبب، وليس كما قالت الكاتبة أن إسرائيل أظلمت المسجد الأقصى باحتلالها له.
فالنبي صلى الله عليه وسلم بكى عند نزول الآيات، قال لـ بلال: (أنزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها -أو سمعها- ولم يتدبرها.
ثم قرأ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191]).
وفي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ قول الله عز وجل عن إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36]، ثم تلا قوله تعالى عن عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]، ثم بكى صلى الله عليه وسلم، فأرسل الله إليه جبريل، وقال له: سله ما يبكيك؟ والله أعلم بما يبكيه، فقال صلى الله عليه وسلم: أمتي أمتي -يبكي على أمته- فأوحى الله إليه بقوله: قل ل