الحمد لله رب العالمين، {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:7].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين، والملأ الأعلى إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة الكرام الأحباب! لقاؤنا اليوم -بحول الله وفضله وتوفيقه وعونه- بعنوان: مواقف بكى فيها النبي صلى الله عليه وسلم.
والعناصر الرئيسة لهذا الدرس هي كما يلي: أولاً: البكاء في القرآن.
ثانياً: البكاء في سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
ثالثاً: أنواع البكاء العشرة كما ذكرها العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى.
رابعاً: بكاء النبي صلى الله عليه وسلم.
خامساً: بكاء أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.
وابتداء نقرر أن جمود العين من قسوة القلب، فالعين التي لا تبكي من خشية الله تدل على أن قلب صاحبها فيه جمود، ولذلك يقول ربنا عن أصحاب القلوب الجامدة: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74]، و (أو) هنا بمعنى: (بل)، أي أن قلوب اليهود أقسى من الحجارة.
وبتتبع بعض المواضع التي ورد فيها ذكر البكاء في القرآن الكريم نجد ما يلي: الموضع الأول: قال ربنا عز وجل في سورة النجم: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم:59 - 61]، ومعنى (سامدون)، أي: مغنون لاهون لاعبون، ومعنى كلمة: (اسمد لنا)، أي: غن لنا، قال تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان:6]، والله إنه الغناء.
الموضع الثاني من مواضع البكاء: في قول الله تعالى في سورة مريم بعد ذكر بعض الرسل: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم:58]، قرأ عمر رضي الله عنه هذه الآية ونزل من على المنبر وسجد، ونظر إلى القوم فما رآهم بكوا؛ فقال: أيها الناس! هذا السجود فأين البكاء؟ أي: أن ربنا قال: {خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم:58]، ولم يقل: ((خَرُّوا سُجَّداً)) فقط.
الموضع الثالث: في سورة التوبة: قول ربنا سبحانه وتعالى عن الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأرادوا أن يخرجوا معه في غزوة تبوك؛ ليقاتلوا أعداء الله سبحانه، فلم يجد لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم عليه، أي: لم يجدوا شيئاً يستطيعون الجهاد به، فكان حالهم أنهم {تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ} [التوبة:92]، لعدم استطاعتهم على الجهاد في سبيل الله، أريتم مثل هذا أيها الإخوة الكرام؟! الموضع الرابع: في سورة المائدة وهو مهم جداً، قال تعالى: ((لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى))، البعض يقرؤنها إلى هنا ويقف، والمعنى لم يكتمل ولم يتضح، وهذا خطأ فادح عند الكثير، بل لابد أن يكملوا الآية، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ} [المائدة:82 - 83]، وذلك أنهم آمنوا؛ {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً}، وإذا سمعوا القرآن آمنوا، أما أن تقرأ: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة:82] وتقف، فهذا غرض في نفسك يا عبد الله! لا بد أن تكمل الآية إلى آخرها.
الموضع الخامس: في سورة يوسف، قال تعالى: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} [يوسف:16]، إخوة يوسف جاءوا أباهم عشاءً ولم يأتوا نهاراً، لأن الكاذب يبدو في وجهه الكذب، فكأنهم تستروا بلباس الليل؛ ليخفوا كذبهم عن أبيهم، وهذا من أنواع البكاء العشرة المعروف ببكاء النفاق.
الموضع السادس: في سورة يوسف جاء ذكر البكاء أيضاً، قال تعالى: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} [يوسف:84]، أي: من كثرة البكاء عليه أصيب بما يسميه علماء الطب: بالماء الأبيض، ولم يكن