أما حديثنا اليوم فحول حديث أورده البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء، من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقبل أن أسترسل في الحديث الذي يحكي لنا قصة بناء بيت الله عز وجل، وكيف بناه إبراهيم، وما الدروس المستفادة من هذا الحديث الطويل، أريد أن أنبه سريعاً، أو أن ألفت النظر سريعاً إلى منهج البخاري في التصنيف، وترجمة لـ سعيد بن جبير رحمه الله تعالى.
إن منهجية البخاري في صحيحه أنه قسم الكتاب إلى كتب، وعدد كتبه سبعة وتسعون كتاباً، أولها كتاب: بدء الوحي، ثم الإيمان، ثم العلم، ثم الوضوء، ثم الغسل، وهكذا حتى ختم بكتاب التوحيد، ثم قسم الكتب إلى أبواب، وفقه البخاري في تبويباته جدير بأن يدرسه العلماء.
وحينما أقول سعيد أذكر في الحال الحجاج بن يوسف الثقفي؛ لأنه هو الذي قتل سعيداً ظلماً، فقد جاء في ترجمة الحجاج: أنه لما كان على فراش الموت وجاءه ملك الموت كان ينتفض ويقول: ما لي ولـ سعيد، ما لي ولـ سعيد، تذكر ذلك الدم الذي قتله ظلماً.
أخذ سعيد بن جبير الحديث والقرآن من فم ابن عباس رضي الله عنهما، وتتلمذ على يده، وسمع منه القرآن تلاوة وتفسيراً ولازمه، وهذا معناه: أنه لابد لك أن تلازم شيخاً، فالعلم لا يؤخذ هكذا كما بينا قبل ذلك، فقد صعد سعيد يوماً إلى سطح المسجد مع تلامذته فقال لهم: سلوني عما شئتم، فيوشك ألا تروني بعد ذلك، وكأنه استشعر باقتراب أجله، وفي هذا دليل على أن العالم ينبغي له أن يخرج على الناس ويقول: سلوني، وهذا ليس فيه شيء، ولا ينبغي للعالم أن يضع العراقيل أو القيود على بابه، بل عليه أن يعرض نفسه على الناس، فقد جاء في الحديث عند البخاري (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبرز للناس ليسألوه)، فلا مكان للعالم الذي يحجب نفسه ويغلق هاتفه ويقيد حركته، لابد للعالم أن يكون متواضعاً مع طلبة العلم، فيعطيهم من وقته، ولا يبخل على أحد منهم طرق بابه في ليل أو نهار، لأن ذلك هو زكاة العلم، والعلم يزكو بالإنفاق والمال تنقصه النفقة، وهذا نقصان ظاهري حتماً.
أيضاً في قول سعيد -سلوني- إشارة إلى منزلة العلماء الربانيين، العلماء الذي لا يصدرون الفتوى حسب الطلب والأهواء، وحسب الحجم والظروف والأحوال، فتارة فوائد البنوك حرام بإجماع مجمع البحوث، وتارة فوائد البنوك حلال بأغلبية مجمع البحوث، الله أكبر! من قال بالأمس: إنها حرام عاد يحلها اليوم، ما الذي حدث يا عبد الله؟! وماذا يكون الربا إن لم تكن فوائد البنوك ربا، ببساطة شديدة: البنك شخص معنوي، واعتبرني بنكاً مثلاً فآخذ منك مبلغاً وأعطيك فائدة ثابتة 10%، والآن انخفضت إلى 8% في حالة الإيداع، فيأتي آخر يريد أن يقترض من البنك، ففي هذه الحالة هو مقرض، وفي الحالة الأولى مودع، فبكم يعطيه؟ 18%، يعني: عمله يأخذ المال من هذا بسعر فائدة قليل، ويعيد إقراضه بسعر فائدة أعلى، أليس هذا هو عين الربا يا عباد الله؟ إن الربا هو: النماء والزيادة، ولكن لمن نقول؟ ومن يسمع؟!