الحمد لله رب العالمين {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة:7 - 9].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر:3].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل البيت مثابة للناس وأمناً، وأشهد أن نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه القائل: (تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر كما تنفي النار خبث الحديد)، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فقال للناس في حجة الوداع: (خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين والملأ الأعلى إلى يوم الدين.
أما بعد: فاسمحوا لي أن أتوقف عن التفسير في أشهر الحج؛ لأن الله يقول: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197]، وهي: شوال، وذو القعدة، والعشر الأوائل من ذي الحجة، وهذا رأي جمهور العلماء، وهذا أولاً.
ثانياً: أني ألمح مؤامرة خبيثة على الحج والعمرة ممن رضعوا من عصارة العلمانية، وممن دفعتهم يد خبيثة تكره الإسلام، وتبغض للأمة أن تلتف حول بيت ربها عز وجل، فإذا بأقلام مسعورة تكتب: لابد أن ننظر في قضية العمرة والحج؛ لأنها تستنزف اقتصاد البلاد، وتؤثر على الخزينة العامة، وتضيع أموالنا في غير موضعها، الله أكبر! أما نظروا إلى حفلات الرقص الماجنة في الفنادق، والتي ينفق فيها في ساعات قليلة أكثر من مائة ألف أو من خمسين ألفاً، وربما ينفق على رقصة هابطة خمسين ألفاً، أما نظروا إلى البلايين التي تتسرب من أموال الفقراء إلى بنوك أوروبا، أما نظروا إلى مظاهر الترف والإسراف الذي نعيشه ولا يخفى على أحد، لقد ضاقوا ذراعاً بالحج والعمرة، فقالوا: لا يمكن لأحد أن يكرر العمرة في أقل من خمس سنين فضلاً عن الحج، فنقول: نحن مع التنظيم، لكن من رزقه الله سعة في ماله فأنفق، وأدى حق الله عليه، وأراد أن يطوف كل عام ببيت الله فهل يملك أحد أن يمنعه؟ تعالوا بنا إلى سيرة السلف لننظر كم كانوا يحجون، وكم كانوا يعتمرون، والنبي في حديث يبين لنا أن علاج الفقر هو المتابعة بين الحج والعمرة، وأن من مفاتيح الرزق أيضاً المتابعة بين الحج والعمرة، ولذلك عندنا مفهوم خاطئ ألا وهو: أننا نؤخر الحج إلى آخر الحياة، فتجد غالب حجاج مصر قد جاوزوا السبعين أو الستين بعد سن المعاش، وربما لا يستطيع أن يؤدي النسك، وهو يملك أموالاً لا حصر لها، لكن مع ذلك يقول: أولاً أبني العمارات، وأزوج البنين والبنات، وأغير موديلات السيارات، وأقتني أرقى الأجهزة، ثم أحج بعد ذلك! لابد أن تعلم أن الله يقول: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]، وتأمل لـ سعيد بن جبير وهو يقول: كان لي جار موسر، فمات ولم يحج بعد، فأبيت أن أصلي عليه.
وأريد من الدارسين أن يأخذوا شريحة واحدة من المجتمع، كالأطباء، أو المحامين، أو أي شريحة تتقاضى أجوراً مرتفعة، وانظر إلى دخلها، فيقول لك: أنا غير قادر على الحج! وهو يملك الآلاف المؤلفة من المال، لكن الشيطان يوهمه، لذلك كانت قضية الحج والنظر إليها من أهم القضايا.
فهذا هارون الرشيد كان يحج عاماً ويجاهد عاماً، وابن حنبل حج خمس مرات؛ أربعاً راكباً ومرة ماشياً على قدميه، يقول: خرجت مع يحيى بن معين نقصد الحج، ثم بعد الحج عزمنا على أن نرحل إلى صنعاء لنسمع الحديث من عبد الرزاق، فهمه حج ثم طلب للعلم، فبينما يحيى يطوف بالبيت إذ قابل عبد الرزاق فقال: يا أحمد ها هو عبد الرزاق قد كفانا مشقة السفر إلى اليمن، فهيا بنا نسمع الحديث منه هنا بجوار بيت الله، فقال ابن حنبل: يا يحيى خرجت من بغداد ونيتي أن أسمع الحديث في صنعاء، فلن أغير نيتي في طلب العلم، وأبى أن يسمع شيئاً ورحل بعد الحج إلى صنعاء.
لذلك أقول: لا داعي لهذه الترهات، فمليوني موحد في ليلة سبع وعشرين من رمضان يؤمنون خلف إمام واحد، ومكة قد أغلقت كل طرقها، والجميع على قلب رجل واحد، والكل يبكي لربه، إنه مظهر يزعج قوى الشرك ويقلق قوى الكفر، إذاً: سيقول الحاقدون: لابد أن نخطط لتدميره، والأقلام المأجورة تكتب دون وعي ولا حس، فاتقوا الله في الأمة، فإنه لم يبق لنا إلا الحج والعمرة، ثم ماذا تريدون بعد ذلك؟ أخشى أن يوجهوا الناس إلى مكان آخر للحج!