تقرب العبد بأجود ما يملك لربه دون ما سواه

قال تعالى: ((إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا)) ما العلة من تقديم القربان؟ روى الطبري بسند ضعيف عن السدي: أن آدم كان يُنجب من زوجته في كل بطن ولداً وجارية، ولا تتزوج الجارية الولد التي ولدت معه، وهذا الأمر أيضاً في كتب السابقين، ففي شرعنا رواه الطبري في تفسيره وفيه ضعف؛ إذ إن المسافة بين السدي راوي الحديث وبين قصة ابني آدم لا يستقيم معها القبول؛ لذلك نكتفي بما ورد في القرآن وبما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: ((قَرَّبَا قُرْبَانًا)) والقربان إلى الله عز وجل، فهذا قرب قرباناً، وهذا قرب قرباناً، وعلامة قبول القربان بنص القرآن: أن تنزل نار من السماء فتأخذ القربان الذي تقبّله الله، فعمد الصالح إلى أجود ما يملك، فهذه علامة الصلاح أن يجعل العبد لربه خير ما يملك، وبعض طلاب العلم يقول: أنا لن أذهب إلى الدروس إذا لم يكن عندي وقت، ولن أحصل على العلم إلا لو تفرغت في وقت.

وأحد السائلين يقول: يا شيخ! أنا مدرس للدروس الخصوصية والحمد لله، وأدرس مجموعات كثيرة، مجموعة تلو مجموعة، وليس عندي وقت للصلاة، فهل يجوز أن أجمع الظهر والعصر والمغرب والعشاء بعد صلاة العشاء؟ أقول: هذا رجل يريد للشرع أن يوافق هواه، جحدري جيفة بالليل وحمار بالنهار، يريد للشرع أن يوافق أعماله، كلا، إنما ينبغي أن تستقيم حركة الحياة على حساب شرع الله.

فلو أننا نظرنا في ظروف كل واحد منا لاختلفت، فنحن يا عباد الله! لا بد أن نجعل لله ما نحب في أوقاتنا، وفي أولادنا، فإن ولد الواحد منا إذا جاء بنسبة 99% دفع به للطب والصيدلة والهندسة، وإن جاء بمجموع ضعيف وكان الولد غير متفوق في دراسته دفع به لحفظ القرآن وتعليمه؛ ليقرأ القرآن للناس ويأخذ مقابلاً: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النحل:62] فليس هذا من صفات المؤمنين، بل من صفات المؤمنين أن يقدموا أفضل ما يملكون لربهم عز وجل.

أخرج البخاري في صحيحه في كتاب العلم باب التناوب في طلب العلم: قال عمر بن الخطاب: تناوبت أنا وجار لي من الأنصار، قال له عمر: أنت تسمع الحديث من رسول الله يوماً وتبلغني ما سمعت، وأنا أتخلف عن السوق يوماً وأسمع وأبلغك ما سمعت.

هذا معناه: التناوب في طلب العلم، لكن أن تجعل الأوقات كلها للدنيا ولا وقت للعلم ولا لرضا ربك سبحانه! فإن هذا يا عبد الله! لا يستقيم، فإن ابن آدم الصالح عمد إلى أجود ما يملك فقربه إلى الله، وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: (غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني ثلاثة: رجل ملك بضع امرأة ولم يبن بها)، أي: أنه عقد الزواج، لكنه لم يدخل عليها، (ورجل بنى داراً ولم يرفع سقفها)؛ لأنه يريد أن يسكن الدار فهذا يشغله عن أمر الجهاد (ورجل ملك خلفات)، أي: ماعز (وينتظر نتاجها) وما في بطنها.

فغزا هذا النبي على بركة الله، وقد بدا له النصر بعد صلاة العصر، وكان في شريعته لا يجوز أن يقاتل بالليل إذا غربت الشمس، فبعد أن اقترب من الفتح اقتربت الشمس من الغروب، فتوجه إلى الشمس قائلاً: أنتِ مأمورة وأنا مأمور، أنتِ مأمورة بالغروب بأمر الله سبحانه، وأنا مأمور بالجهاد في سبيل الله سبحانه، اللهم أمسكها علينا -احبسها- فلا تغيب، حتى يكتمل لنا الفتح، فأخّر الله الشمس عن الغروب، والحديث في الصحيحين، فلما فتح ما أراد جمع الغنائم من المعركة التي كان فيها، وكانت تنزل نار من السماء لتأخذ هذه الغنائم؛ لأن الغنائم لم تحل إلا لأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأحلت لي الغنائم)، فالغنائم في شرع السابقين حرام، فنزلت النار لكنها امتنعت عن أخذ الغنائم، وهذا معناه في شرعهم: أن في الغنائم سرقة، أي: أن أحداً من الجنود الذين اتبعوه تسلل إلى الغنيمة، وأخذ منها بغير وجه حق، وفي الحديث: أن النبي عليه الصلاة والسلام سمع أصحابه يقولون: (يا رسول الله! هنيئاً لفلان الجنة فقد مات في أرض المعركة، ولم يترك شارداً ولا وارداً ولا أحداً من المشركين إلا أجهده، فقال صلى الله عليه وسلم) اسمعوا يا من تأكلون أموال الأمة سحتاً وظلماً! (إن الشملة التي أغلها -أخذها من غنائم الحرب بغير حق- لتشتعل عليه الآن ناراً)، هذا غل شملة، فما بالك فيمن يسخّر السيارات والوظائف لمصالحه الشخصية؟! فما بالك بمن يسرق الملايين من حقوق الكادحين؟! ما بالك يا عبد الله؟! ماذا سيقول لربه؟ إن الشملة التي غلها: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161]، أي: يوم القيامة يحمل فوق رأسه ما غل، فالذين يغلون العمارات كيف يحملونها؟! لما رأى يوشع أن النار لم تنزل إلى الغنائم قال لأتباعه: فليخرج من كل قبيلة قائدها ويصافحني، فالتصقت يده بيد رجلين من ال

طور بواسطة نورين ميديا © 2015