الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام، فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلاً، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنة وفضلاً، فهذا عدله وحكمته وهو العزيز الحكيم: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبده وابن عبده وابن أمته، ومن لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين.
ترك أمته على الواضحة الغراء، والمحجة البيضاء، وسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى صراط الجحيم: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:42].
فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه كما وحد الله عز وجل وعرفنا به ودعا إليه وسلم تسليماً.
أما بعد: عباد الله! أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
لما كانت القلوب -عباد الله- توصف بالحياة وضدها، قسم العلماء القلوب إلى ثلاثة أقسام هي: القلب الصحيح أو السليم، والقلب المريض أو السقيم والقلب الميت.
وقالوا في تعريف القلب السليم: هو القلب الذي قد صارت السلامة صفة له، فقد سلم مما سوى الله عز وجل، فإذا أحب أحب في الله، وإذا كره كره في الله، وإذا أعطى أعطى في الله، وإذا منع منع في الله، ولا تتم سلامة هذا القلب، حتى يعقد صاحبه مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عقداً محكماً مبرماً على الائتمام به في جميع أقواله وأفعاله، فسلم من عبودية غير الله عز وجل، ومن اتباع غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يدخل الجنة إلا من أتى الله عز وجل بقلب سليم، قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
القلب الميت: فهو الذي أخلص العبودية لهواه، فإذا أحب أحب لهواه، وإذا كره كره لهواه، وإذا أعطى أعطى لهواه، فهواه آثر عنده من رضا مولاه، والدنيا تسخطه وترضيه، والهوى يصمه عما سوى الباطل ويعميه، ينادى إلى الله والدار الآخرة من مكان بعيد فلا يستجيب إلى الداعي، ويتبع كل شيطان مريد، فصاحب هذا القلب واقف مع حظوظه وشهواته، لا يبالي رضي الله عنه أم سخط، كما قال الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23].
قال بعض السلف: هو الذي كلما هوى شيئاً ركبه.
كلما زينت له نفسه فعل شيء فإنه يفعله، لا يحجزه شيء من تقوى الله عز وجل، ولا يدفعه شيء إلى حب الله عز وجل.
وبين القلب السليم والقلب الميت القلب السقيم: وهو الذي تمده مادتان، ففيه من محبة الله عز وجل والدار الآخرة ما هو مادة حياته، وفيه من محبة الشهوات وإيثارها ما هو مادة هلاكه وعطبه، فقد يدعوه الداعي إلى الله عز وجل فيستجيب له، وقد يدعوه إلى غير الله عز وجل فيستجيب له.
فالقلب الأول: حي مخبت واعٍ، والثاني: يابس ميت، والثالث: مريض، فإما إلى السلامة أدنى، وإما إلى الموت أدنى.
يقول حذيفة رضي الله عنه: القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف فذلك قلب الكافر، وقلب منكوس عرف ثم أنكر، وأبصر ثم عمي فذلك قلب المنافق، وقلب تمده مادتان، مادة إيمان، ومادة نفاق فهو للغالب عليه منهما.
ومعنى قلب أجرد، أي: متجرد مما سوى الله عز وجل، قد أخلص عبوديته ومحبته لله عز وجل.
وفيه سراج يزهر: أي: فيه مصباح يضيء، وهو المؤمن الذي وصفه الله عز وجل بقوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
فالمؤمن في قلبه مصباح يضيء يميز به بين الشبهات والدلائل الواضحات، وبين البدعة والسنة، والهدى والضلال، ففي قلبه فرقان يفرق به بين الحق والباطل.
وقلب أغلف فذلك قلب الكافر، وهو الذي قد دخل قلبه في غلاف فلا يخرج منه كفر ولا يدخله إيمان، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6].
والقلب الثالث: قلب منكوس عر