الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وسلم تسليماً.
أما بعد: فيقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق.
وهذا التفصيل في غاية الحسن، فقد قسم الناس إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: عالم رباني، وهو: الذي وصل إلى الذروة في العلم والعمل والتعليم، قال تعالى: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} [المائدة:63].
وقال: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79].
فالربانيون هم خواص العلماء، وهم الذين تعلموا وعملوا وعلَّموا.
وقيل رباني: نسبة إلى الرب عز وجل، كما تقول لحياني وجبهاني.
وقيل: نسبة إلى التربية؛ لأنهم يربون الناس بصغار العلم قبل كباره.
فعالم رباني يعني: وصل إلى ذروة العلم والعمل والتعليم.
القسم الثاني: متعلم على سبيل نجاة، وحتى يكون المتعلم على سبيل نجاة ينبغي له ثلاثة أمور: الأمر الأول: أن يتعلم العلم النافع، والعلم النافع هو علم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة رضي الله عنهم، فلا يتعلم علم الكلام والفلسفة وغير ذلك من العلوم غير النافعة التي تضله عن طريق الله عز وجل، وتبعده عن رحمته عز وجل، فينبغي للعبد إذا أراد أن يكون متعلماً على سبيل نجاة أن يتأكد أنه يتعلم العلم النافع: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه كل العلوم سوى القرآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين العلم ما كان فيه قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين فينبغي للعبد أن يتعلم العلم النافع علم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة رضي الله عنهم.
الأمر الثاني حتى يكون على سبيل نجاة وليس على سبيل هلكة: أن يعمل بما يتعلمه.
وقد خرج بعض السلف على طلاب العلم، فقالوا له: حدثنا.
فقال: هل تؤدون زكاة هذا الحديث؟ فقالوا: وما زكاته؟ فقال لهم: ما وجدتم فيه شيئاً من العمل والاستغفار فتعملون به.
وفي رواية أخرى مسندة أنه قال لهم: هل تؤدون زكاة هذا العلم؟ قالوا: وما زكاته؟ فقال: تعملون من كل مائتي حديث بخمسة أحاديث.
أي: أن هذا القدر -ربع العشر- زكاة العلم الذي يتعلمونه، بل لا يتعلم العبد ولا يوفق للعلم النافع حتى يعمل بهذا العلم، كما قال بعض السلف: كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به.
وقال بعضهم: يهتف العلم بالعمل فإن أجابه حل وإلا ارتحل.
فالشرط الثاني حتى يكون المتعلم على سبيل نجاة: أن يعمل بعلمه.
والأمر الثالث: أن يُعَلِّم هذا العلم، وهذا يدخل في العمل بالعلم، وهذا من شكر نعمة الله عز وجل، فعلى العبد إذا تعلم علماً نافعاً أن يسعى في تعليم هذا العلم، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لحامل حديثه ومبلغه فقال: (نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فبلغه إلى من لم يسمعه، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه).
وقال سفيان بن عيينة: لا تجد أحداً من أهل الحديث إلا وفي وجهه نضره لدعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فمن حفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم وبلّغه أصابته دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
القسم الثالث: همج رعاع أتباع كل ناعق.
ولما كان هؤلاء الهمج لا عقول لهم ولا فهوم فقد شبّه من يدعوهم بالناعق الذي ينعق في البهائم؛ لأنهم لا يستطيعون أن يفرقوا بين الدعوات ولا أن يميّزوا بين البدعة والسنة، ولا بين الهدى والضلال، ولا بين الخير والشر، بل كلما دعاهم داع إلى شيء استجابوا له.
فهم أتباع كل ناعق، وحطب كل فتنة، وليس عندهم من البصيرة ومن العلم النافع ما يهديهم إلى الطريق إلى الله عز وجل، ثم هم كذلك لم يتبعوا عالماً يدلهم على طريق الله عز وجل.
فقال: وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح.
فشبه قلوبهم الضعيفة الخالية من العلم النافع بالغصن الرطيب الأخضر الذي إذا أتته ريح من أي جهة مال معها، وشبه الشهوات والشبهات بالرياح التي تعصف بهذه القلوب الضعيفة، فقال: يميلون مع كل ريح.
ثم بيّن سبب هذا الوصف، فقال: لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق.
فليس عندهم علم نافع يميزون به ويهتدون به إلى طريق الله عز وجل، وهم كذلك لم يهتدوا ولم يسيروا خلف عالم بصير بالكتاب والسنة يهديهم إلى سواء السبيل، والإنسان إما أن يكون مبصراً بنفسه، يبصر الطريق ويعلم ما فيها من عقبات وتعرجات، وإما أن يمسك بيد بصير، فإذا كان ليس بصيراً ولم يمسك بيد بصير فيا عزة السلامة.
فيقول رضي الله عنه: وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق.