ما الذي أصاب أمة الإسلام عباد الله! فتسلط عليهم اليهود في فلسطين، وتسلط عليهم الصرب في البلقان، وتسلط عليهم الهندوس في الهند الوثنية الكافرة، وتسلطت عليهم الحكومات العلمانية في سائر البلاد التي تنتسب إلى الإسلام وأهله؟ ما الذي أصاب أمة الإسلام عباد الله! فهز كيانها وأضعف قوتها، وكان سبب ذلتها وهوانها؟ لقد شخص النبي صلى الله عليه وسلم المرض الذي أصاب الأمة قبل أربعة عشر قرناً من الزمان، فقال صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها.
قالوا: من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من صدور عدوكم منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن.
قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: حب الدنيا وكراهية الموت)، وما كان الصحابة رضي الله عنهم يعرفون الوهن، بل كانوا يعرفون العزة والرفعة والكرامة، كانوا يعرفون طريق النصر وطريق الشهادة في سبيل الله عز وجل، ولكنهم سألوا عباد الله من أجل أن نستفيد نحن؛ لأنه قد أصابنا الوهن: (فقالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت).
وليس المقصود بالموت في الحديث: الموت الذي كتبه الله عز وجل على بني آدم؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يكرهون هذا الموت أيضاً، فلما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه.
قالوا: كلنا يكره الموت.
قال: ليس ذاك، إن المؤمن إذا فرج له عما هو قادم عليه أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه).
فالموت الذي كتبه الله عز وجل على بني آدم كل العباد يكرهونه؛ لأنه مصيبة، قال عز وجل: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة:106].
فلا يصاب أحد في الدنيا بمثل مصيبة الموت، ولكن الموت الذي هو الشهادة في سبيل الله عز وجل كان الصحابة يحبونه، كما قال خالد رضي الله عنه للروم: أتيتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.
فكانوا يتطلعون إلى الشهادة في سبيل الله عز وجل، ويحبون البذل والتضحية لإعلاء دين الله عز وجل، وهذا الوهن الذي أصاب الأمة عباد الله! هو حب الدنيا والتعلق بها، وكراهية البذل والإنفاق، وكراهية الموت في سبيل الله عز وجل، وقد حكى الله عز وجل عن الكفار أنهم يغترون بظاهر الدنيا وزينتها، فقال عز وجل: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة:212].
فالمؤمن عباد الله لا يغتر بالدنيا، ولا تذهله فيها الأضواء، ولا تفتنه فيها الشهوات؛ لأن همته أعلى من الدنيا، هو لا يرغب في الدون، ولا يبيع الأعلى بالأدنى بيع الخاسر المغبون، آماله كلها في الآخرة، وأحلامه كلها في الآخرة، فهو يرغب في الشهادة في سبيل الله عز وجل، ويرغب في درجات الشهداء: (فإن في الجنة مائة درجة أعدها الله عز وجل للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض)، فلما تعلق المسلمون بالدنيا، وأشرب حب الدنيا في قلوبهم، وكرهوا البذل في سبيل الله عز وجل؛ أصابهم ما أصابهم من الذل والهوان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم).
ووالله ما هذا الذل الذي أصاب المسلمين إلا لأن الناس رضوا بالدنيا واطمأنوا بها، وكانت هي مبلغ علمهم، وغاية آمالهم وأحلامهم، كيف يرتفع دين الله عز وجل، وكيف تعلو راية الله عز وجل، وكيف يرفرف علم الإسلام من جديد على المعمورة دون بذل من المسلمين، ودون إعلاء لكلمة رب العالمين؟ كيف ترتفع راية الإسلام وشجرة الإسلام لا تروى بالماء، ولكنها تروى بالدماء؟! أصاب المسلمين الوهن وهو حب الدنيا والتعلق بها، والرغبة في شهواتها، وزهدوا في الآخرة الباقية الدائمة، والله عز وجل قد أمرنا بالزهد في الدنيا، وقد رغبنا في الآخرة، فقال عز وجل: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال:67]، وقال عز وجل: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد:26]، وقال: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} [القيامة:20 - 21]، وقال عز وجل: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17]، وقال عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْن