لا شك أن ما قام به هذا الرجل المؤمن من آل فرعون من الإنكار على فرعون، ثم من دعوة فرعون وقومه إلى الإيمان بالواحد الديان، والكفر بالطواغيت والأوثان من أفضل الجهاد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الجهاد: كلمة عدل عند سلطان جائر)، وكان هذا أفضل الجهاد؛ لأن الجهاد تعريض للنفس للتلف، أو الجراح العظيمة، ولكن كلمة الحق عند سلطان جائر تعرض النفس أكثر للتلف، أو يغلب على الظن تلف النفس.
ثبت أيضاً أن أبا بكر الصديق أفضل من هذا الرجل المؤمن، وله موقف مع النبي صلى الله عليه وسلم لما لبده أحد الكفار بردائه، فدفعه أبو بكر وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28]، هذا الحديث رواه البخاري ومسلم عن عروة بن الزبير قال: (سألت عبد الله بن عمرو عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رأيت عقبة بن أبي معيط -هو أشقى القوم- جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوضع رداءه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه، فقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28])، بل ثبت أن أبا بكر وعمر أفضل أولياء الله عز وجل بعد الأنبياء، كما في الحديث: (أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين عدا الأنبياء والمرسلين).
وكذلك استدل أهل السنة والجماعة بقوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} [غافر:36] على فوقية الله عز وجل على خلقه، فإنه عندما سئل موسى عن ربه قال: فوق السماء؛ فلذلك قال فرعون: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} [غافر:36].
فهذا يدل على عقيدة الفوقية والأدلة كثيرة على ذلك، كما في قوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] يعني: فوق السماء؛ لأن (في) تأتي بمعنى (على)، كما قال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15].
فنحن لا نمشي داخل الأرض، لكن نمشي فوق الأرض، وأيضاً: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] أي: من على السماء أو فوق السماء.
قال القاسمي في قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]: المراد: عرض أرواحهم عليها دائماً، واكتفى بالطرفين المحيطين الغدو والعشي عن الجميع، وبه يستدل على عذاب القبر والبرزخ، وقانا الله عز وجل منه بمنه.
قال السيوطي في العجائب للكرماني: في هذا الآية أدل الدليل على عذاب القبر؛ لأن المعطوف غير المعطوف عليه، يعني: قوله تعالى: ((وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ)) أي: هذا العرض ما دامت الدنيا، فإذا قامت الساعة يقال لهم: ((أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)) وهو عذاب جهنم؛ لأنه جزاء شدة كفرهم، فهم في عذاب أدنى وفي عذاب أكبر، والعذاب الأدنى في البرزخ وفي الدنيا، والعذاب الأكبر يوم القيامة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه وسلم.