ولنشرع في شرح الآيات الكريمات: يقول تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26].
قال الزمخشري: قوله: ((ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى)): كانوا إذا هم بقتله كفوه بقولهم: ليس بالذي تخافه، وهو أقل من ذلك وأضعف، وما هو إلا بعض السحرة، ومثله لا يقاوم إلا ساحراً مثله.
ويقولون: إن قتلته أدخلت الشبهة على الناس، واعتقدوا أنك عجزت عن معارضته بالحجة.
الظاهر: أن فرعون -لعنه الله- كان قد استيقن أنه نبي، وأن ما جاء به آيات وما هو بسحر، والله عز وجل يسجل ذلك، قال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14].
وقال موسى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102].
فكان فرعون يعتقد بأنه نبي، وأن هذه المعجزات التي أتى بها تؤيد أنه نبي صادق؛ ولذلك كان يخاف من قتله، فهو يظهر أنه يريد أن يقتله، ولكنه في الواقع كان يخاف من قتل موسى خشية أن ينزل به عذاب.
يقول: ولكن الرجل كان فيه خب وجربزة، وكان قتالاً سفاكاً للدماء في أهون شيء، فكيف لا يقتل من أحس منه بأنه هو الذي يثل عرشه ويهدم ملكه؛ لأنه كان يقتل الولدان، يعني كما يقولون: أنه بلغه من أهل الكتاب أو من بعض الكهان أنه يولد في تاريخه غلام يكون هلاك ملكه على يديه، ومن أجل ذلك كان يقتل الولدان، فهو كان يعتقد أنه سوف يزول ملكه على يديه، ولكنه كان يخاف إن هم بقتله أن يعجل له بالهلاك.
فقوله: ((وَلْيَدْعُ رَبَّهُ)) شاهد صدق على فرط خوفه منه، يقول: ((وَلْيَدْعُ رَبَّهُ))؛ لأنه خائف من دعاء موسى، وكان قوله: ((ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى)) تمويهاً على قومه وإيهاماً أنهم هم الذين يكفونه، وما كان يكفه إلا ما في نفسه من هول الفزع.
قوله: ((أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ)) أن يغير ما أنتم عليه، وكانوا يعبدونه ويعبدون الأصنام بدليل قوله: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127].
يقول: إني أخاف أن يفسد عليكم دينكم بدعوتكم إلى دينه، أو يفسد عليكم دنياكم بما يظهر من الفتن بسببه، وهكذا أهل الباطل دائماً، فهم يصورون أن أهل الإيمان والالتزام سوف يذهبون بطريقتهم المثلى، وأنهم على حضارة، وعلى نور وخير، وأن هؤلاء يريدون أن يردوا الناس إلى عصور الظلام، وأن يحرموهم من المدنية ومن حضارة أوروبا، فهذا تمويه من أهل الباطل، يموهون ويلبسون الباطل ثوب الحق والحق ثوب الباطل.
قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:27].
قال ابن كثير: أي: عذت بالله ولجأت إليه، واستجرت بجنابه من أن يسطو فرعون وغيره علي بسوء.