أكثر الناس يضيعون أعمارهم في غير طاعة الله عز وجل، وفي غير ما يعود عليهم بالخير في الدنيا والآخرة، ومن علامة خذلان الله عز وجل للعبد: أن يجعل شغله فيما لا يعنيه، ومن حسن إسلام المرء شغله فيما يعنيه، أي: فيما يعود عليه بالخير في الدنيا والآخرة.
فأكثر الناس يبيعون أعمارهم وأوقاتهم وأنفسهم بثمن بخس دراهم معدودة وهم فيها من الزاهدين، إما في تحصيل العرض الزائل وهو عرض الدنيا، وإما في إنفاق الأنفاس في طلب المال، ولا يأتيه إلا ما قدر له منه، أو ينفق عمره في المعاصي، أو في المباحات، ولا يتقرب بذلك إلى رب الأرض والسماوات.
وقليل من الناس الموفق الذي يعرف قيمة الوقت وقيمة العمر، وينفق ذلك في طاعة الله عز وجل، ومن بذل عمره في غير طاعة الله عز وجل تقول له الملائكة يوم القيامة: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ * ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [غافر:75 - 76].
والذي ينفق وقته في طاعة الله عز وجل تقول له الملائكة: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32].
{وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43].
{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24].
من يضيع عمره في غير طاعة الله عز وجل يندم حين لا ينفع الندم، فإن من عجائب الأمور إفاقة المحتضر، فإنه يفيق عند احتضاره إفاقة عجيبة، ويتذكر كل ما مضى من جناياته ومخالفاته، ويكاد أن يموت حسرة على نفسه قبل أن تخرج روحه؛ لأنه لم يغتنم وقته في طاعة الله، وإنما ضيع وقته في معصية الله عز وجل، يفيق إفاقة عجيبة عند احتضاره، ويتمنى لو أنه أجل ساعة واحدة، فيقول لملك الموت: يا ملك الموت! أخرني شهراً، فيقول: فنيت الشهور فلا شهر.
فيقول: يا ملك الموت! أخرني يوماً، فيقول: فنيت الأيام فلا يوم.
فيقول: يا ملك الموت! أخرني ساعة، فيقول: فنيت الساعات فلا ساعة، ثم تخرج روحه، قال عز وجل: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100].
فيطلبون الكرة -أي: الرجعة- عند معاينة ملك الموت، وعند معاينة أمور الآخرة، كما يطلبون الرجعة إلى الدنيا إذا وقفوا على النار وعرضوا عليها، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27].
ويطلبون الرجعة كذلك إذا عرضوا على الملك الجبار، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12].
ويطلبون الرجعة وهم بين طبقات النيران، قال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37].
يذكرهم الله عز وجل عند ذلك بنعمة العمر وهم يصرخون بين طبقات النيران، فهم لم يعرفوا قدر عمرهم، ولم يعرفوا قدر زمانهم، ولم يعرفوا قدر اللحظات والساعات والأيام التي عاشوها في الدنيا، عاش خمسين سنة أو مائة سنة ولكنه لم يقف مع نفسه وقفة صادقة، ولم يحاسب نفسه لله عز وجل، ولم يستقم على طريق الله عز وجل ولم يصدق ربه عز وجل، ولم يبذل عمره في طاعته فهم يصرخون بين طبقات النيران، ويقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37].
أين الأوقات التي كانت أمام الشبكة العنكبوتية في المواقع الإباحية؟ أين الأوقات التي أنفقت أمام استقبال البث المباشر؟ أين الأوقات التي بذلت أمام لوحة النرد أو الشطرنج؟ أين الأوقات التي بذلت في معصية الله عز وجل؟ بل أين الأوقات التي أنفقت في الصد عن سبيل الله وفي تزيين الشهوات والشبهات؟ قال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] والنذير: قيل: هو الشيب، وقيل: هو الموت، وقيل: هو من يذكر بالله عز وجل ومن يدعو بدعوة الرسل، قال تعالى: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}