من أدلة السنة على شرف العلم وفضله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها).
فالحسد هنا يراد به الحسد الشرعي وهو الغبطة، أما كون المسلم يتمنى زوال النعمة عن أخيه المسلم فهذا حسد مذموم وهو من المعاصي، بل من الكبائر، أما أن يتمنى المسلم ما عند أخيه المسلم دون تمني زوال ما عند أخيه فهذا من الغبطة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا حسد)، من أراد أن يحسد إنساناً يحصل له به خير فليحسد أحد هذين الرجلين: من عنده مال وسلط على إنفاقه في سبيل الله عز وجل، ومن عنده علم فهو يقضي به ويعمل به ويعلمه؛ لأن هذين الصنفين أجورهما متزايدة، ونفعهما متعد إلى غيرهما، فلا يحسد الصوام القوام؛ لأن نفعه لا يتعدى إلى غيره، ولكن يحسد من ينفع الناس، إما بعلمه وإما بماله.
كذلك ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، فالحديث بمنطوقه من أراد الله عز وجل به خيراً فقهه في دينه، فإذا وجدنا إنساناً فقه دين الله فنحن نجزم بأن الله عز وجل أراد به خيراً.
والحديث يفهم منه العكس، من لم يرد الله به خيراً لا يفقهه في الدين، فالذي ملك الدنيا أو الشهرة لم يرد الله عز وجل به خيراً؛ لأنه لم يفقهه في الدين، فالله عز وجل يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين ولا العلم النافع إلا من أحبه: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20].
فنحن نجد عند الكفار والعلمانيين والذين يصدون عن سبيل رب العالمين من زينة الدنيا ومن زهرتها أكثر مما عند أهل الإيمان؛ لأن الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم كذلك.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الدنيا لأربعة نفر: رجل آتاه الله مالاً وعلماً فهو ينفق ماله يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأحسن المنازل عند الله، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو يقول: لو آتاني الله مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته وهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط في ماله لا يتقي فيه رباً ولا يصل فيه رحماً ولا يعلم لله فيه حقاً، فهذا بأسوأ المنازل عند الله، ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو آتاني الله مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته وهما في الوزر سواء).
وأكثر الناس من الصنف الأخير، ليس عنده علم ولا مال، ولكنه يتمنى أنه لو كان عنده مال لعصى بهذا المال، كما يفعل من عنده مال وليس عنده علم.
إذاً: الشرف بجملته للعلم وأهله، وهذا مما يدل على شرف العلم وفضله.
جاء في السنة: (أن نافع بن عبد الحارث أتى عمر بن الخطاب بعسفان -مكان بين مكة والمدينة وهو أقرب إلى مكة- وكان عمر قد استخلفه على مكة فقال له: من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: ابن أبزى.
قال: ومن ابن أبزى؟ قال: رجل من موالينا) والمولى يطلق على من كان عبداً وأعتق، ويطلق على المعتق أحياناً.
قال: (من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: ابن أبزى.
قال: ومن ابن أبزى؟ قال: رجل من موالينا، قال: استخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض.
قال: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: إن الله ليرفع بهذا العلم أقواماً ويضع به آخرين).
فالعلم يرفع العبد المملوك حتى يجلسه مجالس الملوك، كما ذكر ذلك إبراهيم الحربي قال: ذهب سليمان بن عبد الملك وابناه إلى عطاء بن أبي رباح، وكان عبداً أسود لامرأة في مكة، وكانت أنفه باقلاء، وذهبوا يسألونه عن مناسك الحج، وكان يصلي، فلما انفتل -أي: انتهى من صلاته- ظل يرد عليهم من خلف قفاه -أي: لا يقبل على الخليفة وابنيه- فقال سليمان بن عبد الملك لابنيه: قوما ولا تنيا في طلب العلم، فلا أنسى ذلنا بين يدي ذلك العبد الأسود.
وروى الحربي كذلك، قال: كان عنق محمد بن عبد الرحمن الأوقص داخلاً في بدنه، وكان منكباه -أي: كتفاه- خارجين كأنهما زجان، فقالت له أمه: إنك لا تكون في مجلس قوم إلا كنت المضحوك منهم والمستهزأ به، فعليك بالعلم فإنه يرفعك، قال: فولي قضاء مكة عشرين سنة، أي: أنه طلب العلم حتى صار قاضي مكة عشرين سنة.
قال: وكان الخصم إذا جلس أمامه بين يديه يظل يرعد حتى يقوم؛ لما ألقى الله عز وجل عليه من مهابة العلم.
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أذلاء وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء فف