فالعبد ينبغي أن يكون كله لله عز وجل، وقته لله عز وجل، وزهده لله عز وجل، وماله لله عز وجل، وزوجته وأولاده لله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
فالعبد لا يجوز له أن يعمل ويؤدي إلى غير سيده، بل يجب عليه أن يؤدي إلى سيده، فلا يجوز له أن يختلس من وقته شيء ولا من جهده شيء ولا من ماله شيء، فكل عمله لله عز وجل، فهو يصلي لله ويصوم لله ويحج إلى بيت الله الحرام ويسعى إلى معاشه لله عز وجل ليقوم بالواجبات عليه، بل ينام لله عز وجل، كما قال معاذ: إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي.
فعمله كله لله عز وجل، وليله ونهاره لله عز وجل، يظن الناس أن من كان كذلك فإنه يعيش مكدر الخاطر، منغص الضمير؛ لأنه لا يفعل ما تهواه نفسه، ولا ما يزينه إليه شيطانه؛ لأنهم يتوهمون أن العبد لا يمكن أن يسعد حتى يفسق عن أمر الله عز وجل ونهيه، وحتى يتبع الهوى، وحتى يفعل ما تأمره به الشياطين.
وهذا من الظن الفاسد، بل لا سعادة له إلا في طاعة الله عز وجل، وفي عبوديته لله عز وجل، وأن يكون كله لله عز وجل، فمن الناس من ليس منه شيء لله عز وجل، فهو بباطنه ليس مشغولاً بالله، وليس ممن يحب الله عز وجل وينشغل بطاعته، وأعماله خارجة عن طاعة الله عز وجل.
ومن الناس من يكون ظاهره لله عز وجل، فهو يقف في الصف مع المصلين، ويقف بعرفات مع الواقفين، ويخرج مع الحجاج والمعتمرين، ولكن قلبه في الشهوات يهيم.
وهذا ينطبق عليه قول القائل: يخبرني البواب أنك نائم وأنت إذا استيقظت أيضاً فنائم فمثل هذا لا يجد طعم الإيمان، ولا يجد حلاوة الإيمان، ولا يجد سعادة الإيمان، لأنه لا يجد ذلك إلا من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، لا يجد العبد طعم الإيمان وحلاوة الإيمان حتى يكون كله لله عز وجل، فهو بظاهره مشغول بطاعة الله وباطنه مع الله عز وجل، وقلبه مملوء بحب الله عز وجل، وسعادته في أن يخلو بالله وفي أن يذكر الله عز وجل، وفي أن يجلس في مجالس ذكر الله عز وجل، وفي تحقيق العبودية لله عز وجل، فكلما حقق العبد كمال العبودية لله عز وجل فإنه يسعد في الدنيا والآخرة، وتجري في قلبه أنهار الجنة، ويفتح لقلبه باب إلى الجنة يأتيه من ريحها وطيبها، كما قال بعضهم: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من نعمة لجالدونا عليها بالسيوف.
وقال بعضهم: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا.
وقال بعضهم: ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، وصلاة الجماعة.
وقال بعضهم: إنه لتمر بي أوقات يرقص فيها القلب طرباً.
وقال بعضهم: إنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة كما نحن فيه والله! إنهم لفي عيش طيب.
لماذا لم نجد هذه المعاني الإيمانية ولم نصل إلى هذه الأحوال الشريفة الرضية؟ لأننا لسنا جميعاً لله عز وجل، وفي قلوبنا من حب الدنيا ومن الشهوات ومن المعاصي الظاهرة والباطنة ما حرمنا بسببه من وجود لذة الطاعة والعبادة كما وجد السلف رضي الله عنهم.
وقال شيخ الإسلام: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لن يدخل جنة الآخرة.
وكان يقول: ما يفعل بي أعدائي؟ أنا جنتي معي، بستاني في صدري، إن سجني خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وتعذيبي جهاد في سبيل الله.
ولما سجن في القلعة نظر من خلف الباب وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13].
وكان تلميذه العلامة شيخ الإسلام ابن القيم يقول: كنا إذا ضاقت بنا الأمور واشتدت بنا الأحوال نلقاه فما أن نراه إلا يذهب كل ذلك عنا وينقلب انشراحاً وفرحاً، ولقد كان من أطيب الناس عيشاً مع ما كان فيه من شدة العيش وخلاف الرفاهية، كانت نضرة النعيم تلوح على وجهه.
فالحمد لله الذي فتح لعباده باباً إلى جنته فأتاهم من ريحها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها، وهم ما يزالون في دار العمل.
وشيخ الإسلام تجاوز الستين سنة وما وجد حياة الراحة والاستقرار حتى يتزوج، بل كان من سجن إلى سجن ومن معركة إلى معركة ومن مناظرة إلى مناظرة، لم يفرغ يوماً حتى يتزوج زوجة حسناء، أو يملك سرية حسناء، ولا سعى خلف دينار ولا درهم ولا سعى لمنصب، فكانت حياته كلها بذل لله عز وجل وعبودية لله عز وجل، فكيف وجد سعادة الإيمان وحلاوة طاعة الله الرحمن؟ بل كيف يجد من رآه حلاوة الإيمان؟ وكيف ينشرح صدر من رآه من أتباعه من المؤمنين والأولياء الذين رؤوا ذكر الله؟ ورد عن أيوب السختياني سيد شباب أهل البصرة من التابعين: أنه كان إذا دخل السوق ورأوه هللوا وسبحوا وكبروا، أي: لما يرون عليه من آثار الطاعة والعبادة.
فالم