قال القاسمي: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} [القصص:76] أي: من شاكلتهم في الكفر والطغيان، وقوم موسى: هم جماعته الذين أرسل إليهم وإلى طاغيتهم فرعون.
{فَبَغَى عَلَيْهِمْ} [القصص:76] أي: بالكبر والاستطالة عليهم؛ لما غلب عليه من الحرص ومحبة الدنيا، ولغروره وتعززه برؤية زينة نفسه، {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} [القصص:76] أي: من الأموال المدخرة، {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ} [القصص:76] أي: مفاتيح صناديقه على حذف المضاف، ولا ملابسة في ذلك، وقيل: خزائنه.
{لَتَنُوءُ} [القصص:76] أي: تثقل، {بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76] أي: الجماعة الكثيرة من الرجال والبغال، {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ} [القصص:76] أي: بزخارف الدنيا فرحاً يشغلك عن الشكر فيها والقيام بحقها، {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76] لما فيه من إيثار الدنيا على الآخرة والرضا بها عنها والإخلاد إليها، وذلك أصل كل شر ومبعث كل فساد.
قال الزمخشري: وذلك أنه لا يصلح للدنيا إلا من رضي بها واطمأن، وأما من قلبه معلق بالآخرة فإنه يحن ويعلم أنه مفارق ما هو فيه عن قريب لم تحدثه نفسه بالفرح، وما أحسن ما قيل: أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالاً أي: يعيش في نعيم، ومع ذلك فإنه يوقن بأنه سيفارق هذا النعيم، وهذا يورثه شيء من الغم، فإن الإنسان في زينة في الدنيا وفي راحة، فإذا أيقن بأنه سوف ينتقل من هذه الزينة والراحة، حصل له شيء من الغم، أما في الآخرة يبشر أهل الجنة بدخول الجنة والخلود فيها، فلا يتكدر عيشهم، ولا يخرجون من هذا النعيم.
قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77].
قال الرازي ما ملخصه: ثم إنه تعالى بين أنه كان في قومه من وعظه بأمور: أحدها: قوله تعالى: {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76] والمراد: ألا يضحك ولا يبطر، ولا يلهيه تمسكه بالدنيا عن أمر الآخرة.
وثانيها: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:77] والظاهر: أنه كان مقراً بالآخرة، والمراد: أن يصرف المال في السبل التي تؤدي به إلى الجنة، وأن يسلك طريق التواضع.
ومعلوم أنه ليس كل من يقر بالآخرة يكون من أهل النجاة؛ لأن الإنسان قد يقر بالآخرة ولكنه لا يعمل لها، فهذا لا ينفعه الإقرار.
ثالثها: قوله تعالى: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] فيه عدة أوجه: الوجه الأول: لعله كان مستغرق الهم في طلب الدنيا، فلم يتفرغ للتنعم والالتذاذ، فنهاه الواعظ عن ذلك وقال: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]؛ لأن كثيراً من الناس يجمعون المال، وتجده فعلاً لا يتمتع بالدنيا، مثل كثير من الأطباء الذين يعملون في المستشفيات، فإن الواحد منهم يمتلك عدة عبادات وينشغل بعدة عمليات جراحية، فتجده يشتغل في الدنيا وفي جمع المال، فيومه كله جمع للمال، فمتى يستفيد بهذا المال ويتمتع به؟ فلعل قارون أيضاً كان مستغرق الهم في جمع المال، فلم يجد فرصة للتمتع بهذا المال؛ ولذلك قال له الناصح: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] يعني: تمتع بهذا المال قبل أن تتركه.
الوجه الثاني: لما أمره الواعظ بصرف المال في سبيل الآخرة بين له أنه لا بأس بالتمتع به في الوجوه المباحة، فالإنسان يعمل للآخرة ولكنه لا يحرم نفسه زينة الدنيا، بل يجوز له أن يتمتع بهذه الدنيا في حدود ما أباح الله عز وجل وشرع.
الوجه الثالث: المراد من قول الواعظ: الإنفاق في طاعة الله عز وجل، فإن ذلك هو نصيب المرء من الدنيا دون الذي يأكل ويشرب.
رابعها: قوله تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77] أمره بالإحسان بالمال، وأمره بالإحسان مطلقاً، فقوله: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:77] يعني: من المال، ثم أمره بالإحسان مطلقاً في كل أمر من أموره، ويدخل فيه الإعانة بالمال والجاه وطلاقة الوجه وحسن اللقاء وحسن الذكر، فإن الله سبحانه يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] يعني: إذا أحسنت أحسن الله عز وجل إليك، فإن هذا الشكر يستوجب المزيد من الخير والنعمة.
خامسها: قوله: {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} [القصص:77] والمراد: ما كان عليه من الظلم والبغي، وقيل: إن